الجائعون
في زمنٍ تحوّلت فيه الهواتف إلى عيونٍ تلاحق كل تفاصيل حياتنا، برزت ظاهرة اجتماعية خطيرة آخذة في الانتشار، وهي تصوير الموائد والأطعمة، ثم تجاوز الأمر إلى ما هو أدهى وأمرّ: تصوير الضيوف وهم يتناولون طعامهم.
قد يراها البعض عادة عابرة أو تصرفًا عفويًا، لكنها في حقيقتها تحمل دلالاتٍ نفسية وثقافية واجتماعية عميقة، وتكشف عن نوعٍ جديد من “الجوع”، ليس جوع البطون، وإنما جوع النفوس والذوات. فمنذ القدم ارتبط الطعام بالكرم، وكان تقديم المائدة عنوان المروءة ووسام الشرف، وكان المضيف يُسرّ إذا شبع ضيفه، ويغتمّ إذا خرج جائعًا. أما اليوم فقد انقلبت المعادلة، وصارت المائدة وسيلة استعراض، تُرتّب لا لكرم الضيف بل لالتقاط صورة سريعة تُعرض على شبكات التواصل. لم يعد السؤال: هل شبع ضيفي؟ بل: هل التقطتُ صورة تليق بالعرض؟ ولم يعد الطعام يُعدّ لإشباع الجائع، بل لإرضاء جمهورٍ افتراضي يلتهم الصور بنهمٍ أشدّ من نهم البطون.
في تراثنا الإسلامي والعربي، الضيافة عبادة وقيمة عليا، قال رسول الله ﷺ: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه”، والإكرام لا يقتصر على الطعام، بل يشمل الستر والاحترام وصون خصوصية الضيف. واليوم يُفاجأ الضيف بعدسات الهواتف تلاحقه وهو يمد يده إلى لقمة، أو يرفع كوبًا إلى فيه، وكأنما فقدت لحظة الأكل خصوصيتها الإنسانية. فأي إكرامٍ في أن يتحوّل الضيف إلى “مشهد” يتداوله الناس؟ وأي حياءٍ بقي إذا كُشف ما كان يُستر وراء الأبواب؟
إن هذه الظاهرة ليست عن الطعام بقدر ما هي عن الظهور، فهي تعبير عن جوعٍ آخر: جوعٍ إلى التباهي وحصد “الإعجابات” وإشعار الناس بأننا نعيش في وفرة ورفاهية. لكن الحقيقة أن من يلتقط الصور للطعام ليس شبعانًا، بل جائعًا… جائعًا للانتباه. لقد تحوّلت الموائد إلى “مسرح” والعزائم إلى “عروض”، وغاب المعنى الأصيل للكرم، وأصبحنا نعيش حالة غريبة: نأكل لا لنشبع، بل لنصوّر. ونُكرم الضيف لا لوجه الله، بل لوجه المتابعين.
وللظاهرة آثار سلبية عميقة؛ فهي تهدر قيمة الضيافة إذ يشعر الضيف بالحرج وكأنه مراقَب وهو يأكل، وتفتح باب المباهاة والرياء حيث تتحوّل الموائد إلى وسيلة تفاخر طبقي، وتشيع ثقافة الاستهلاك بعرض صور الأطعمة الفاخرة على فقراء قد لا يجدون لقمة عيش، وتطمس القيم الأصيلة حيث يتحول الكرم من عبادة خالصة إلى سلعة للتسويق الشخصي على “السوشيال ميديا”.
والطعام في القرآن ارتبط بالستر والرحمة، قال تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾، ولم يقل: “ويعرضونه للناس”، بل جعل القيمة في العطاء الخفيّ. وفي السنة حين دعا النبي ﷺ أصحابه إلى مائدة لم يصفها بزينتها ولا بتفاصيلها، بل قال: “طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة”، فجعل البركة في البساطة لا في الاستعراض.
لقد أصبح لزامًا على المجتمع أن يقف وقفة صريحة مع نفسه، وأن يعيد النظر في مفهوم الضيافة: هل هي واجب اجتماعي أم وسيلة استعراض؟ وعلى المؤسسات التربوية والإعلامية أن تسهم في ترسيخ قيم الاحترام والخصوصية، وعلى الأسر أن تربي أبناءها على أن الطعام بركة لا “محتوى”، وعلى الضيوف أن يطالبوا بحقهم في الخصوصية، وأن يرفضوا أن تتحول لحظاتهم الصادقة إلى لقطات سطحية عابرة.
إن أخطر ما في هذه الظاهرة أنها تكشف عن جوعٍ جديد، جوعٍ إلى النظر لا إلى الأكل، وإلى الإعجاب لا إلى البركة. فالجائعون حقًا ليسوا أولئك الذين يفتقرون إلى الخبز، بل أولئك الذين يفتقرون إلى الذوق والحياء. فليتنا نعود إلى جوهر الضيافة كما عرفها آباؤنا وأجدادنا: بساطة، وستر، وكرم، وخصوصية. وليتنا ندرك أن الموائد لا تُقام لتُعرض، بل لتُكرم.