تقاليد أم تنافس؟
كيف حوّلنا أفراحنا إلى صراعات مالية وصوتية!
بين المظاهر والمضامين… حفلات الزفاف والتجمعات القبلية تُنهك المجتمع تحت شعار الفرح
في الوقت الذي تمضي فيه المملكة العربية السعودية نحو نهضة تنموية شاملة، متسلحة برؤية 2030 التي تضع الإنسان في قلب التحول، تبرز بعض الممارسات المجتمعية التي قد تُعيق جودة الحياة والتوازن المالي والروحي، وعلى رأسها: الإسراف في حفلات الزفاف والمناسبات الاجتماعية والتجمعات القبلية.
فرحٌ يُفترض أن يُفرِح… أصبح عبئًا يرهق الجيوب، ويهدر الوقت، ويعطّل الأولويات.
في هذا المقال، نفتح الملف بوعي، ونناقش الظاهرة لا بهدف التذمر، بل لفهم الأسباب، وطرح حلول واقعية تحترم القيم وتواكب العصر.
أولًا: ليلة فرح… تقود إلى أعوام من الديون
تحوّلت حفلات الزفاف إلى مهرجانات استعراضية باهظة، لم يعد الغرض منها إدخال السرور، بل إثبات “القدرة الاجتماعية” والظهور بمظهر “لائق” حسب أعراف ضاغطة.
قاعات فاخرة، كوشات أسطورية، فرق فنية، ضيافات خرافية… وكل ذلك قد يُموَّل بقرض بنكي أو دين عائلي يمتد لسنوات.
فهل من المنطقي أن يبدأ الشاب حياته الزوجية تحت عبء الدين؟
وهل غدت قاعة الزفاف أهم من بيت الزوجية نفسه؟
ثانيًا: الفرح يستنزف الوقت كما يستنزف الجيب
المشكلة لا تتوقف عند المال، بل تمتد إلى الزمن والجهد والعلاقات.
فالإعداد لأي مناسبة – خصوصًا حفلات الزفاف أو الاجتماعات القبلية – يبدأ قبلها بشهور، ويستنزف طاقة الأسرة ويعطّل مهامها الوظيفية والتعليمية وحتى خططها المستقبلية.
بل حتى الحضور المجتمعي البسيط لم يعد بلا تكلفة:
المدعوّات يحتجن إلى فساتين ومزينات، والمدعوّون مطالبون بهدايا أو مساهمات، لتصبح حتى “الزيارة” عبئًا غير مباشر.
ثالثًا: بين الشريعة والنظام… الرسالة أوضح مما نظن
الإسلام واضح في موقفه من الإسراف:
“إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ”
(الإسراء: 27)
“وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ”
(الأنعام: 141)
وجعل النبي ﷺ البركة في التيسير فقال:
“أعظم النساء بركة أيسرهن مؤونة.”
أما من الناحية النظامية، فإن التوجه العام في الدولة – وفق رؤية 2030 وبرامج الحوكمة الاقتصادية – يدعو إلى رفع كفاءة الإنفاق، وترشيد الاستهلاك، وتحقيق التوازن الأسري والمجتمعي.
وهذه الأهداف تتنافى مع مشاهد البذخ والتكلف التي نشهدها في بعض مناسباتنا.
رابعًا: التجمعات القبلية… عندما تطغى المظاهر على الجوهر
الظاهرة لا تقتصر على الزواجات، بل تمتد إلى بعض التجمعات القبلية التي تحولت إلى ساحات تفاخر ومهرجانات صوتية، يُستقدم فيها من يُجيدون الخُطب الرنانة والمديح المفرط لأشخاص قد لا يحملون أثرًا علميًا أو إنتاجًا مجتمعيًا حقيقيًا.
هي ممارسات نادرة في المجتمعات المتقدمة، لكنها تتكرّر في بيئتنا، ما يدعو إلى مراجعتها بدل تمجيدها، حتى لا نُكرّم الظهور ونُهمّش الجوهر.
خامسًا: الفرح لا يعني البذخ… بل التوازن
لا أحد يطالب بإلغاء مظاهر الفرح، بل بإعادتها إلى معناها الصحيح.
الفرح الحقيقي لا يحتاج ديكورًا مفرطًا ولا كوشة ذهبية، بل قلوبًا صافية ونيات طيبة.
وقد بدأت بالفعل بعض الأسر الواعية بتنظيم ما يُعرف بـ”الزواجات الذكية”؛ مختصرة التكاليف، مركزة على دعم العروسين بمسكن أو مشروع إنتاجي، بدلًا من بعثرة المال على مظاهر تختفي في فجر اليوم التالي.
خاتمة: هل نُعيد صياغة أفراحنا؟
لقد آن الأوان لإعادة تعريف الفرح.
أن نُعلّم أبناءنا أن القيمة ليست في عدد الكراسي، بل في عمق العلاقات.
وأن المدح الحقيقي لا يُقال في قصائد، بل يُثبت في إنجاز وسلوك.
وأن حفلاتنا لا ينبغي أن تكون بوابةً للضغط المجتمعي والتفاخر المرهق، بل لحظةً صادقة نحتفل فيها بما يرضي الله… ويراعي عقولنا، وجيوبنا، وأولوياتنا.