أربعة أمتار… وخلاف بطول التاريخ!
حين يصبح شبر الطريق أثقل من جبلٍ من الودّ
قضية هذا المقال ليست بعيدة عن واقع كثيرٍ من الناس…
إنها قضية يعيشها جُلّ من يسكن الأرياف، ممن آلت إليهم أراضٍ متوارثة، لا يعرفون لها تاريخًا موثقًا، ولا أصلًا دقيقًا، لكنها أصبحت اليوم محط نزاع، ومصدر خلاف، وعنوان قطيعة بين من جمعتهم ذات يوم مائدة واحدة او دم واحد.
في صباحٍ هادئ، وبين زحام الرسائل المعتادة، وقعت عيني على نقاشٍ مشتعل في إحدى مجموعات "الواتساب" شبه العائلية.
الموضوع؟
بضعة أمتار مربعة لا تتجاوز أربعة أو خمسة… لا تكفي لزراعة شتلة، ولا تسع حتى ظل شجرة!
لم يكن الحديث عن مشروع استثماري، ولا نزاعٍ على ميراثٍ بالملايين، بل عن مقترح بسيط:
أن تُضم تلك القطعة الصغيرة لتوسعة طريق ضيق، يُسهِّل على أحد الأقارب الدخول إلى ارضه او بيته.
طلب لا يحمل في ظاهره أكثر من بادرة تيسير، لكنه فجأة تحوّل إلى ما يشبه مفاوضات سلام بين دولتين!
فين كل متكلم وصامت فإن كل كلمة تُفسَّر، وكل تلميح يُحسب، والحقيقة فإن الحدود تُرسم على الرمال لا على الخرائط… حتى بدأنا نشعر وكأن الأمر اصبح صراع وجود!
أراضٍ ضئيلة… وخلافات ضخمة
المفارقة أن هذه الأراضي لم تكن ثمرة تعب، ولا ثمرة استثمار، بل آلت بالتوارث عبر الأجيال، غالبًا دون صك أو وثيقة دقيقة.
ورغم هذا، ترى بعض الملاك مستعدين للدفاع عن "كل متر"، ولو على حساب علاقة أو رحم أو خاطر جار.
وحين يتقابل الأطراف على أرض الواقع، تتضح الصدمة:
ان هذا ليس غريبًا… بل قد يكون جاره، أو ابن عمّه، أو ابن خاله، أو حتى قد يكون شقيقه!
ومع ذلك، تستمر المماطلة، ويتقلص حجم التسامح، وتتسع هوة القلوب.
وهنا تحضر الحقيقة الكبرى:
أن من تعب على هذه الأرض، قد غادر منذ زمن…
غادر إلى قبر لا يتجاوز مترين في متر، مغطّى بكفن أبيض، محمولًا لا حاملًا، تاركًا وراءه كل شيء.
بين متر أرض… ومتر قبر
لماذا أصبحت قطعة الأرض أثمن من راحة البال، ومن صلة الرحم، ومن الذكر الطيب في المجالس؟
لماذا نصرّ على "الانتصار" في موقف لا يورّث إلا ضغينة؟
في الحقيقة، ما يُتقاتل عليه غالبًا ليس الأرض، بل الذات… من يُملي كلمته؟ من يُفرض رأيه؟ من يخرج مرفوع الرأس؟
أما الكرم، واللين، والتيسير… فقد غابت عن ساحة المشهد، وذهبت معها النوايا الطيبة.
هل نحتاج مترًا إضافيًا… أم قلبًا أوسع؟
ربما السؤال الأهم الذي نحتاج طرحه هو:
هل نحن بحاجة فعلية إلى توسعة الطريق؟ أم إلى تضييق مساحة الغرور والعناد فينا؟
هل نبحث عن إثبات ملكية ؟ أم عن أثر طيب في القلوب؟
هل نريد أن تُذكر أسماؤنا كمن تمسكوا بكل شبر؟ أم كمن وسّعوا الطريق، فوسّع الله لهم في الدنيا والآخرة؟
ولا شك أن المستفيد الأول من توسعة الطريق هو صاحب الملك نفسه، فهو الأدرى بموقعه، والأكثر تضررًا من ضيق الحركة، والأشد حاجة إلى الانسيابية في الدخول والخروج.
فمن يبادر بالتيسير، لا يخسر ملكه… بل يكسب راحته، ويكسب وجوهًا تدعو له، وقلوبًا تحفظ له المعروف.
إن أجمل ما يُورث ليس الأرض… بل السيرة.
ليس المتر… بل الموقف.
فلنُميط الأذى… قبل أن يُميط التراب عنا الحياة
آن الأوان أن نُزيح العوائق، لا من الطريق فقط، بل من صدورنا أيضًا.
أن نستشعر عظمة "إماطة الأذى عن الطريق"، وهي من أعمال الجنة، كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم.
فمن وسّع طريقًا ابتغاء وجه الله، نال أجرًا عظيمًا، ليس له وحده، بل لوالديه، وأجداده، بل وحتى لأحفاده من بعده…
فالبركة لا تكون في التمسك، بل في التيسير.
والأجر لا يكون في الحِدة، بل في المبادرة.
وفي ختام مقالي
في زمنٍ تتقاطع فيه المصالح، وتتنافر فيه الطباع، لا بأس أن نختلف…
لكن ليكن اختلافنا رحيمًا، لا قاطعًا… واعيًا، لا أنانيًا…
فنحن في النهاية، سنُدفن جميعًا في نفس المترين من التراب، تمامًا كما دُفن من سبقونا ممن عمّروا الأرض، وأكلوا من خيرها… ثم غادروها دون أن يأخذوا منها إلا عملهم.
ود يوسع طريقا… خير من متر يغلق القلوب.