سرّ التوازن في الكون: رؤية مصطفى محمود الفلسفية
قال الله تعالى:{ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} سورة [البقرة: 251]
في أعماق هذه الآية، غاص الدكتور مصطفى محمود كما يغوص العارف في محيط الحكمة، ليكشف عن جوهرة من أعظم درر الفهم الوجودي. لم يرَ فيها مجرد كلمات تتلى، بل استشف منها مفتاحًا لفهم حركة الحياة، ومعادلة التوازن التي تحفظ الكون من الانهيار في هاوية الفوضى والخراب.
بعين الفيلسوف الذي جمع بين العلم والإيمان، أدرك مصطفى محمود أن هذه الآية لا تصف فقط قوانين الله في الصراعات البشرية، بل تشرح ناموسًا إلهيًا يسري في كل جوانب الحياة. فـ"الدفع" الذي تشير إليه الآية ليس مجرد صراع، بل هو فعلٌ من الرحمة، به تستقيم الكفة، ويُكبح الظلم، ويُحجّم الطغيان.
يقول مصطفى محمود:
"لو تُرك الشر ليتمادى بلا مقاومة، ولو تُرك الباطل ليرتفع بلا من يرده… لفسدت الأرض واختنقت الأرواح كما تختنق الزهور في مستنقع آسن."
هذا القانون الرباني لا يحكم فقط صراع الأفكار، أو تصادم القوى، أو تنازع المصالح، بل يضع قواعد العدل الإلهي في تفاعل الوجود. ففي كل زوايا الحياة هناك "دفع" مستمر:
في الفكر، يبعث الله العقلاء لمواجهة الجهل والخرافة.
في السياسة، يعلو صوت الأحرار لمقارعة الاستبداد.
في السوق، تخلق المنافسة توازناً أمام الجشع والطمع.
حتى في النفس البشرية، تصارع الشهوات الضمير، ويتجاذب الإنسان بين نداء الأرض ونداء الروح.
ولو اختفى هذا التفاعل الموزون، لعاشت البشرية في جمود قاتل، تسوده فكرة واحدة، وصوت واحد، ولون واحد… وذلك هو الموت بعينه، مهما تزيّن برداء "الاستقرار".
إنها آية تكشف أن الله يحقق التوازن في الحياة لا بالسكون، بل بالحركة… لا بالجمود، بل بالتصادم المنظَّم… حيث يولد العدل من رحم الصراع، وتنبثق الرحمة من خضم المعركة.
وقد صدق الدكتور مصطفى محمود حين قال:
"إن الله يدفع الناس بعضهم ببعض لا ليهلكهم، بل ليهذبهم، كما تُصفّى المعادن في النار."
فإذا رأيت من حولك صراعًا، فلا تستعجل بالحكم عليه أنه شرّ مطلق، فقد يكون جزءًا من ذلك "الدفع" الذي يحفظ الأرض من الفساد، ويضمن استمرار التوازن في الكون.
وكل وقفة حق، وكل كلمة صدق، وكل مقاومة للباطل، ما هي إلا جزء من تلك الحركة المقدسة التي تحمي الحياة من الانهيار.