المؤسس

رأسلنا

المبوبة

الخصوصية

عـن غـــــرب

فريق التحرير

  • ×
السبت 17 مايو 2025
م.علي السليم- جدة
م.علي السليم- جدة

الدرباوية الناعمة... من الشارع إلى الشاشة




ظنّ كثيرون أن ظاهرة "الدرباوية" شبّت ثم خمدت، بعد أن خفتت مظاهرها المعهودة من التفحيط، والتجمهر، والمخالفة الصريحة للذوق العام. لكن الظواهر الاجتماعية لا تختفي دائمًا، بل تعيد إنتاج نفسها في قوالب جديدة. اليوم، يظهر مشهد مختلف: درباوية ناعمة لا تُرى على الأسفلت، بل خلف الشاشات، بأسماء مختلفة، وأساليب أكثر نعومة، لكنها أكثر تأثيرًا.

في سنوات مضت، شكّلت "الدرباوية" سلوكًا صاخبًا ارتبط بفئة من الشباب اختاروا الشارع منصة، والسيارة أداة، والضجيج أسلوبًا للظهور. وكان هذا المصطلح يُشير إلى نمط من التمرد الصريح، في المظهر واللغة والحضور، حتى صار ظاهرة تُناقَش وتُرفَض وتُلاحق.

ومع مرور الوقت، اختفت تلك المظاهر التقليدية. لم نعد نرى المركبات تفحط كما كانت، ولا الشماغات بلا عُقل، ولا التجمّعات في أطراف المدن. للوهلة الأولى، بدا أن "الدرباوية" انتهت. لكنها – كما تكشف بعض المؤشرات – لم تنتهِ، بل تغيّرت.

من الذكور إلى الإناث... ومن الشوارع إلى الشاشات

الظاهرة تحوّلت، لا في جوهرها، بل في وسيلتها. من الشارع إلى الشاشة، ومن المشهد الذكوري إلى أنماط سلوك أنثوية جديدة بدأت تفرض حضورها على منصات التواصل الاجتماعي. صارت بعض الفتيات اليوم في صدارة مشهد رقمي يملأه التحدي، والثقة الزائدة، والتصريحات التي تمزج بين العفوية والجرأة، تحت عناوين مثل: "أنا مختلفة"، أو "ما يهمني أحد".

ولم يعد التمرد بحاجة إلى عجلات أو أصوات مرتفعة، بل إلى كاميرا هاتف، وإضاءة جيدة، وقليل من التأثير. يُبث المحتوى، ويُعاد تداوله، وتبدأ صناعة صورة جديدة: صورة "الدرباوية الناعمة".

أسباب متعددة... ورسائل متضاربة

الدوافع تختلف. فبين من تسعى إلى الشهرة، ومن تبحث عن فرص التكسب، ومن تجد في هذه الوسائل وسيلة لإثبات الذات، تتشكل أنماط متعددة من هذا السلوك الرقمي المتجدد. وهناك أيضًا من تنساق مع التيار دون وعي، كما يقول المثل الشعبي: "مع الخيل يا شقرا"، خشية أن تبقى خارج دائرة الضوء أو العصر.

ومع ذلك، من المهم التوضيح أن هذا الطرح لا يشمل أولئك الذين يستخدمون منصات التواصل لبث محتوى هادف أو ثقافي أو اجتماعي أو ديني. فهؤلاء يمثلون جانبًا مشرقًا في هذا الفضاء الرقمي، ويستحقون الاحترام والدعم، بل يُعدّون نماذج ملهِمة لمستخدمي المحتوى الجديد.

عندما يصبح التمرد مؤثّرًا... وهادئًا

الخطورة لا تكمن في الشكل، بل في الرسائل الضمنية التي يحملها هذا النمط الجديد. حين تُقَدّم السخرية على أنها "عفوية"، والتحدي كأنه "قوة شخصية"، يصبح التمرد سلوكًا مستساغًا، وربما مطلوبًا. ويبدأ التطبيع مع نماذج كانت مرفوضة، لتصبح مألوفة ومكررة بل ومؤثرة.

ومع ازدياد المتابعين، تتسع رقعة التأثير، ويصير للصوت المتمرّد جمهور يُصفّق، لا لأنه يقتنع، بل لأنه يُسلّي، أو يُثير الجدل.

مرحلة التحول... ومسؤولية التوازن

في ظل ما تشهده المملكة من تحولات اجتماعية وثقافية ضمن رؤية 2030، بات من الطبيعي أن تظهر أنماط جديدة من التعبير، بعضها إيجابي، وبعضها يحتاج إلى قراءة هادئة. فالمجتمعات التي تنمو سريعًا، تحتاج إلى وعي أعمق بما يُنتج ويُتداول، دون وصاية، ولكن أيضًا دون انبهار.

إن تربية الذوق العام مسؤولية مشتركة، تبدأ من البيت، وتستكملها المدرسة، وتُترجمها المنصات. وما بين التعبير والتمرد، تبقى القيم والمبادئ هي الميزان.

وما بين الصوت المسموع والصدى الرقمي، يبقى الوعي المجتمعي هو الفيصل في تحديد الاتجاه: نحو بناء القيم... أم استبدالها بالضجيج.


 0  0  5.8K