حين ودّعني نبض القلب
منذ نعومة أظافري، كانت أمي هي نبض البيت وضياء الأيام. تحت جناح حنانها وسعته، عشت أجمل سنوات حياتي، تُسقيني من بحر عطفها الذي لا ينضب. لم تراعِ يومًا نفسها في سبيل سعادتنا؛ كانت تطهو أطيب الأطباق بروح الأم التي تصنع الفرح، فتصبح مائدتنا مملكةً من الأمان والدفء.
بعد زواجي، ظلت زياراتي إليها متنفسًا روحيًا، تحملني رائحة خبزها الطازج وصوت ضحكتها التي تذيب همومي. لكن رحيل والدي كسر شيئًا فيها؛ تبدّلت ملامح الحياة في عينيها، واختلّ توازن القلب الذي لطالما احتوانا. حاولت جاهدًا أن أضمها إلى مسكني الجديد، بعيدًا عن ذكرياتها المؤلمة، لكنها فضّلت رفقة أخي الأكبر وأبنائه الذين ربتهم بحنان لا يقل عن رعايتها لنا، فوجدت بينهم العون والسلوى.
ومع مرور الأيام، توالت الأمراض على جسدها الضعيف: القلب، والسكر، والضغط، والكلى… لم تتركها عاصفة ألم إلا وجدتها تقاومها بابتسامتها الصامدة. تناوبنا على رعايتها في المستشفى، أنا وإخوتي، وزوجات إخوتي اللواتي كنَّ مناراتٍ للرجاء. رمضان هذا العام، دخلت العناية المركزة، وكُتب عليها أن تتذوق ألمًا أشدّ من العادة، فباتت سريرها حصنًا للصمت المؤلم، وزياراتنا لها دعاءً يُهشّم القلب.
في ثالث أيام العيد، دخلت الغرفة على أملٍ ببصيص نورٍ في عينيها. لكنني فوجئت بمناظر الإنعاش تتصارع مع أنفاسها الأخيرة. اقتربتُ منها، احتضنتها، وأخبرتها أن الشهادة تنتظرها، وهي آخر كلمات سمعتها منها. لم يكن في تلك اللحظة سوى صدى نبضها الضعيف، ثم غابت في هدوءٍ كهدوء آخر ورقةٍ تسقط عن شجرة عاش عمرها فينا.
رحلت أمي وتركت خلفها بيتًا لا يزال صدى ضحكتها يتردّد في جدرانه، وذكرياتٍ تختبئ في كل زاوية. قلبي ما زال يبحث عنها في صمت الأيام، وأشعر بأنها لم تفارقني، رغم أن الجنازة صكّت باب الفراق. يا ليت الدموع تُعيدها، لكن الأمل أننا سنلتقي مجددًا في قصيدةٍ أبديةٍ تكتبها ملائكة الرحمن على أبواب الجنة. أدعو الله أن يجعل يد الرحمة تمتد إليها، كما امتدت يداها دائمًا إليّ، وأن يجمعنا في ديار السلام حيث لا وداع.