المؤسس

رأسلنا

المبوبة

الخصوصية

عـن غـــــرب

فريق التحرير

  • ×
الأحد 16 مارس 2025
طارق محمود نواب _ سفير غرب
طارق محمود نواب _ سفير غرب

التغافل

ليس التغافل كما يُفهم عند البعض ضعفًا أو هروبا من المواجهة بل هو مهارة عقلية ووجدانية. تكشف عن نضح عميق وقدرة على التمييز بين ما يستحق الوقوف عنده وما يمكن تجاوزه. ففي عالم يزدحم بالتوترات والمشاحنات اليومية، أصبح التغافل ضرورة حتمية. وسرًا من أسرار النجاح الشخصي والاجتماعي، فالتغافل ليس مجرد مهارة اجتماعية، بل هو أسلوب حياة يمكّن صاحبه من إدارة علاقاته
مع الآخرين بذكاء عاطفي وعمق فكري. فعندما تتغافل عن هفوة من صديق أو كلمة جارحة من زميل، فإنك في الحقيقة تمارس شكلا من أشكال السيطرة على الذات. فالتغافل يعني أن تدرك الخطأ، لكنك تختار تجاوزه حفاظًا على الألفة والمودة، أو على سلامك الداخلي فإن كنت تتعامل مع شخص لا يهمك أمره فهذه القدرة على التمييز بين ما يستحق الرد وما يمكن تركه يعكس نضجا داخليا يُعلي من قيم التسامح والترفع.
فالتغافل يُظهر قوته الحقيقية في بيئة العمل، حيث يختبر الأفراد قدرتهم على التعامل مع الضغوط
وسوء الفهم بشكل يومي. ففي بعض المؤسسات، تجد مديرًا يجعل من اكتشاف الأخطاء ورصد الهفوات شغله الشاغل، ظنا منه أن ذلك يعكس جديته وحرصه. لكنه في الحقيقة يُضعف مناخ العمل ويخلق بيئة مشحونة بالتوتر والصراعات الخفية. وعلى الجانب الآخر، يظهر المدير الحكيم الذي
يُدرك قيمة التغافل، فيختار أن يتجاوز الأخطاء البسيطة، ويركز على بناء الثقة والولاء بين أعضاء فريقه. والتغافل هنا ليس ضعفًا إداريًا، بل استراتيجية ذكية لتوجيه الطاقات نحو الإنتاجية بدلاً من التوقف عند الصغائر . ولكن ما يميز التغافل عن الإهمال هو ذلك الخط الرفيع بينهما. فالتغافل فعل واع يستند إلى تقييم دقيق لما يجب تجاوزه، أما الإهمال فهو نتيجة للتسيب واللامبالاة. فالتغافل يحفظ كرامة الآخرين ويتيح لهم فرصة التصحيح دون الحاجة إلى المواجهة بينما الإهمال يترك الأمور عالقة ويعطي انطباعًا بعدم الاكتراث. لذا، فإن فن التغافل يحتاج إلى حكمة في الممارسة، ومعرفة
عميقة بتوقيتاته وحدوده ومع ذلك، لا يمكن اختزال التغافل في كونه مجرد أداة للتعامل مع الآخرين، بل هو أيضًا وسيلة لتهذيب النفس وحمايتها من الانجراف وراء التفاصيل المرهقة. فالشخص الذي يتغافل عن الانتقادات غير البناءة، أو يتجاوز الأخطاء البسيطة التي لا تؤثر على مسار حياته، يمنح نفسه فرصة للتركيز على ما هو أهم حيث إنه يُبعد عن ذهنه العبء النفسي الذي تسببه المشاحنات اليومية، ويختار بدلا من ذلك أن يستثمر طاقته في تحسين ذاته أو تحقيق أهدافه فالحياة بطبيعتها.
مليئة بالزلات والعثرات. ولا يوجد إنسان معصوم ولا علاقة بشرية خالية من الأخطاء. والتغافل هنا ليس فقط وسيلة للحفاظ على العلاقات بل هو ضمان لاستمراريتها بروح من التسامح وحسن الظن حيث إنه قرار داخلي بعدم تضخيم الأمور، وبفتح باب الأعذار للآخرين، وبالإيمان أن التساهل مع عيوب البشر يجعل من العيش معهم أكثر سهولة وجمالا . وفي النهاية، لا يمكن إنكار أن التغافل من يتطلب تدريبا وصبرا، لكنه بمجرد أن يصبح جزءًا من شخصية الإنسان يغير نظرته للحياة بالكامل حيث إنه المهارة التي تتيح لك العيش بسلام داخلي رغم ضجيج العالم من حولك، والقدرة على خلق توازن دقيق بين حقوقك وواجباتك تجاه نفسك وتجاه الآخرين فالتغافل ليس مجرد تصرف عابر، بل هو فلسفة عميقة تمنحك القوة لتعيش. لا فقط بسلام، بل بإشباع روحي يجعل من كل يوم رحلة جديدة نحو راحة البال.
 0  0  2.2K