المؤسس

رأسلنا

المبوبة

الخصوصية

عـن غـــــرب

فريق التحرير

  • ×
الإثنين 10 مارس 2025
طارق محمود نواب _ سفير غرب
طارق محمود نواب _ سفير غرب

مفهوم النجاح في عصر الأرقام

في عالمٍ كان النجاح يُقاس فيه بالإنجازات الحقيقية، ويُبنى على الجهد والمثابرة، ويُكلل بالتجارب التي تصقل الإنسان وتمنحه الخبرة، أصبحت المعايير مختلفة تمامًا، بل وأحيانًا مشوهة. فلم يعد الأمر مرتبطًا بالسهر على تحقيق الأحلام، ولا بالكفاح في وجه التحديات، ولا حتى بالفشل الذي يسبق النجاح ويصقله. فبدلًا من ذلك، صار النجاح يُقاس بمؤشرات أخرى سطحية في جوهرها، لكنها أصبحت ذات سلطة قوية على عقول البعض. فلم يعد السؤال: ماذا قدمت؟ أو كيف أثّرت؟ أو ما الأثر الذي تركته؟ بل أصبح: كم عدد متابعيك؟ وكم حصلت من الإعجابات؟ وهل وُضعت بجانب اسمك علامة التوثيق؟
فاليوم، إذا تحدثت مع شاب في العشرينات عن رجلٍ أسس شركة ناجحة بعد سنوات من الكفاح، وواجه العقبات ثم تجاوزها، وتلقى ضربات قاسية لكنه نهض من جديد، حتى بنى لنفسه كيانًا يستحق الإشادة، فلن تجد في وجه مستمعك سوى نظرة عابرة غير مكترثة، وربما يرد عليك بجملة مقتضبة وكلمات جوفاء تُقال مجاملةً، أو ربما تلميحًا بأن هذه المعلومات ليست ذات أهمية بالنسبة له. لكن، إذا أضفت إلى حديثك تفصيلة واحدة فقط، وهي أن هذا الرجل لديه مليونَي متابع على منصات التواصل الاجتماعي، حينها ستتغير ملامح المستمع فورًا، وسيتحول التجاهل إلى انبهار، وستلمع عيناه دهشة، ثم يأتي الاعتراف المنتظر: "أوه، إذن هو ناجح!".
وهنا، تتبادر إلى الذهن تساؤلات كثيرة: ماذا عن كل ما سبق؟ ماذا عن الاجتهاد، والتجربة، والسقوط والنهوض من جديد؟ لماذا لم يكن حصوله على درجات علمية مرموقة، أو تأسيسه لشركة ناجحة، أو اكتسابه لخبرات عميقة كافيًا ليُنظر إليه باعتباره ناجحًا؟ لماذا لم تكن مسيرته التي بُنيت على سنوات من التعب والمثابرة مثيرةً للإعجاب بقدر ما أثارت الأرقام الإلكترونية الحماس والاندهاش؟
لقد تحوّلت معايير النجاح في هذا العصر إلى شيء غريب ومثير للدهشة. وأصبح النجاح مرتبطًا بمدى ظهورك في قوائم المقترحات، وبعدد الأشخاص الذين نقروا على زر "متابعة"، وبكمية التفاعل التي حصدتها منشوراتك. فقد صار الأمر كما لو أن القيمة الإنسانية تُقاس بلغة الأرقام، وليس بما يقدمه الإنسان فعلًا من علمٍ أو فكرٍ أو عملٍ يُحدث أثرًا حقيقيًا. وأصبح من الشائع أن يُنظر إلى الشخص الذي يمتلك ملايين المتابعين على أنه شخص ناجح، حتى لو كان محتواه سطحيًا أو بلا معنى، بينما يُنظر إلى أصحاب الجهود الحقيقية على أنهم مجرد أشخاص عاديين، لا يستحقون الانبهار أو الاحتفاء، لأنهم لم يجمعوا "جيشًا من المتابعين".
ولكن، ما الذي تغيّر؟ هل أصبح العلم بلا قيمة؟ هل فقدت التجارب الفعلية وزنها؟ هل لم يعد للمعرفة والمثابرة أهمية تُذكر؟ أم أن الحياة ذاتها فقدت جوهرها الحقيقي واستُبدلت بمشهد زائف وسريع التلاشي، حيث تُصنع الشهرة بين ليلة وضحاها، ثم تتلاشى بنفس السرعة عندما ينصرف الجمهور إلى شيء آخر؟
ففي هذا العصر الذي تحكمه الأرقام، أصبح الجوهر يُقاس بالكم، وليس بالكيف. ولكن الحقيقة تظل واحدة لا تتغير، مهما تغيّرت المعايير الظاهرة: فالنجاح الحقيقي ليس مجرد شاشة مضيئة، وليس أرقامًا تتضاعف كل يوم، وليس موجةً من الإعجابات التي قد تزول مع أي تغيير في الخوارزميات. فالنجاح هو ما يبقى بعد أن يخفت كل هذا الصخب، وهو الأثر الذي لا تمحوه التقلبات الرقمية، ولا يحدده عدد المتابعين، بل تتحدد قيمته الحقيقية بما يقدمه الإنسان للعالم من معرفة، وفكر، وإنجازات تصمد أمام الاختبارات.
 0  0  2.3K