المؤسس

رأسلنا

المبوبة

الخصوصية

عـن غـــــرب

فريق التحرير

  • ×
الأربعاء 26 فبراير 2025
طارق محمود نواب _ سفير غرب
طارق محمود نواب _ سفير غرب

لماذا انت هنا؟

هناك لحظة معينة، لا يمكن تحديدها بالضبط، لكنها تحدث عندما يجرّب الإنسان شيئًا لأول مرة. تلك اللحظة التي يكون فيها العقل في حالة يقظة تامة، والجسد متحفزًا، وكأن كل الحواس تستيقظ بعد سبات طويل. ففي تلك اللحظة، لا يوجد ماضٍ مألوف نرتكز عليه، ولا مستقبل واضح يمكن توقعه، هناك فقط الحاضر بكل تفاصيله الجديدة. حيث يبدو العالم أوسع، والألوان أكثر وضوحًا، والأصوات تحمل معاني لم ننتبه لها من قبل.
فالتكرار، رغم ما يمنحه من شعور بالأمان، يمكن أن يكون خادعًا. فهو يجعل الحياة تبدو كأنها تحت السيطرة، لكنه في الحقيقة يسرق منها عنصر المفاجأة. ويجعل الأيام تتشابه وتفقد تدريجيًا إحساسها بالحياة، وتصبح مجرد تسلسل من اللحظات المكررة. وفي المقابل، كل تجربة جديدة، مهما كانت صغيرة، تعيد تشكيل هذا التسلسل، كأنها تدسّ ألوانًا جديدة في لوحة بدأت تفقد بريقها.
لكن الأمر لا يتعلق فقط بالجرأة على التغيير، بل بفهم عميق أن الحياة في جوهرها، هي سلسلة من التجارب المستمرة. فلا يوجد شيء ثابت، لا نحن، ولا أفكارنا، ولا حتى الأماكن التي نعيش فيها. فكل شيء يتحرك، ويتغير، وينمو، وحتى الجمادات تتآكل ببطء مع الزمن. فالتمسك بالمألوف قد يمنح إحساسًا زائفًا بالاستقرار، لكنه أيضًا قد يجعلنا نتجاهل حقيقة أن التجديد ليس خيارًا، بل ضرورة للبقاء على قيد الشعور.
فأحيانًا، التجربة الجديدة تأتي بمحض الصدفة، دون تخطيط مسبق. فربما تدخل إلى مقهى لم تزره من قبل، فتجد نفسك منجذبًا إلى رائحة قهوة مختلفة، أو ربما تكتشف أنك تحب نوعًا معينًا من الموسيقى لم تكن تتخيل أنك ستستمع إليه يومًا. وأحيانًا أخرى، التجديد يحتاج إلى قرار واعٍ، إلى رغبة حقيقية في رؤية الأمور من زاوية أخرى، أو حتى من مكان آخر. فالسفر، على سبيل المثال، ليس مجرد انتقال جغرافي، بل هو تجربة تمنحك فرصة لإعادة اكتشاف نفسك في بيئة مختلفة، بعيدًا عن قيود الروتين والتوقعات المسبقة.
لكن الأمر لا يحتاج دائمًا إلى تغيير جذري. أحيانًا، يكفي أن تتعلم شيئًا جديدًا، ولو كان بسيطًا. أن تجرب الرسم لأول مرة، أو تبدأ في تعلم لغة لم تفكر يومًا في إتقانها. أو أن تجلس في مكان غير معتاد، وتتأمل الناس من حولك، وتحاول تخيل قصصهم. فكل هذه التجارب الصغيرة، رغم بساطتها، تترك أثرًا غير مرئي، لكنها تغيّرك بطرق لا تدركها إلا بعد زمن.
فالكتب تعلّم، والنظريات تشرح، لكن لا شيء يضاهي المعرفة التي تأتي من التجربة المباشرة. فيمكنك أن تقرأ عن الغوص، أو أن تحفظ كل قواعده، أن تشاهد عشرات الفيديوهات عنه، لكن الإحساس الفعلي بالماء وهو يبتلعك للحظة، والشعور الأولي بالرهبة قبل أن تتحول إلى دهشة، هذه تفاصيل لا يمكن أن تنقلها الكلمات. فبعض الأشياء لا تُفهم بالعقل، بل تُحس بالجسد، وتُعاش بكامل الكيان، وتُخزّن في الذاكرة كجزء من هوية الشخص نفسه.
والمثير في الأمر أن الإنسان لا يعرف أبدًا أي تجربة ستكون نقطة التحول في حياته. فالحياة ليست ثابتة، ولا يمكن اختزالها في مجموعة من العادات التي نكررها يومًا بعد يوم. فهي تجربة متجددة، مليئة بالاحتمالات، وكل خطوة جديدة فيها هي دعوة لإعادة اكتشاف الذات. ربما لا يكون السؤال هو متى كانت آخر مرة فعلت فيها شيئًا للمرة الأولى، بل بالأحرى: كيف يمكن أن تجعل كل يوم يحمل في داخله شيئًا جديدًا، ولو كان مجرد فكرة، أو شعور، أو لحظة وعي لم تعشها من قبل؟
 0  0  2.0K