المؤسس

رأسلنا

المبوبة

الخصوصية

عـن غـــــرب

فريق التحرير

  • ×
الأحد 23 فبراير 2025
د. بندر الحنيشي
د. بندر الحنيشي

عن د. بندر الحنيشي

دكتوراه في الفقه المقارن، عضو محكمة لندن الدولية، مستشار شرعي وقانون وتحكيم دولي.

المتاجرة بالدماء.



لا شك أن الدماء في ميزان الشريعة معصومة لا تُهدر بغير حق، وكانت العدالة ميزانًا دقيقًا لا تميل به العواطف ولا تهزه نوازع الهوى، لكن في زماننا هذا طغى الجشع على معاني العفو، وتحول الصلح في الدماء من باب الرحمة والتسامح إلى سوق للمزايدة والاستغلال، حتى غدا العفو لا يصدر عن كرم النفس ولا عن إحسان القلب، بل عن حسابات مادية صِرفة لا تمتّ إلى جوهر العدالة بصلة.

إن المغالاة في صلح الدماء فتنة زلزلت أركان العدالة والمجتمع، وأحدثت شرخًا عميقًا في بنيان الإنصاف، فبدلًا من أن يكون الصلح بابًا يُرتجى به التخفيف والتيسير، صار وسيلة لاستنزاف الأموال وإثقال الكواهل. يطلب أولياء الدم مبالغ خيالية، لا يحكمها عرفٌ ولا يحدّها شرع، حتى بلغ الأمر حدًّا صار فيه العفو عن القاتل لا يُنال إلا بثمن يُضاعَف عشرات المرات عن الحدّ الشرعي للديات المقدرة، وكأن المقتول أصبح سلعة تُحدد قيمتها بمدى ثراء الجاني أو نفوذ أهله أو قبيلته، فإن كان غنيًا نجا، وإن كان فقيرًا هلك، وهكذا يتحول ميزان العدل من إقامة الحق إلى تجارة لا ترحم الضعيف، ولا تنصف المظلوم.

إن العفو عن القاتل، حين يُطلب لوجه الله، يكون قمة النبل والرفعة، لكنه حين يُستغل لنهب الأموال، فإنه يفقد جوهره، ويفسد معناه، ويصير أداةً للابتزاز والتكسب.

لقد رأينا كيف أن بعض أولياء الدم يزايدون على مقدار الدية وكأنها ساحة مزاد، يُرفع فيها السعر بلا ضابط، ويتفاخر فيها القوم بمبالغ لا يستطيع دفعها إلا بشق الأنفس إن استطاعوا، حتى كأن العفو نفسه بات مشروطًا بحجم المال، لا بحجم الرحمة.

والمصيبة أن هذا السلوك، الذي لا يمتّ إلى روح الشريعة بصلة، لم يأتِ من فراغ، بل تغذّى على موروث اجتماعي منحرف، يربط قيمة الإنسان بما يدفع من أموال، وينظر إلى القتل لا بوصفه جريمة تستوجب العقوبة أو العفو الحسن، بل بوصفه فرصة للثراء.

وكم من عائلات غُلبت على أمرها، فوجدت نفسها أمام مبالغ لا تُطاق، لا يقدر عليها إلا أصحاب الجاه والسلطان، بينما الفقير، حتى وإن كان القتل بغير قصد، لا يجد أمامه إلا الدفع أو القصاص.

إن هذا السلوك، في جوهره، لا يضرّ فقط بالعدالة، بل يهدم مقاصد الشريعة، ويفتح باب الفوضى على مصراعيه. فحين تصبح الدية أداةً للتربح، يتشجع بعض ضعاف النفوس على إشعال الفتن، وتُستغل قضايا الدماء لأغراض دنيوية خبيثة، وقد يصل الأمر إلى التلاعب بالمشاعر واستدرار العواطف لجمع الأموال، فتُنصب الخيام، وتُكتب المناشدات، وتُدوَّن الأشعار، ويُضغط على المجتمع للتبرع بمبالغ خيالية، كل ذلك من أجل إشباع جشع من لا يقنعون بحكم الله، ويرون في الدماء فرصة لا تُعوّض للثراء الفاحش.

وإن أعجب من ذلك أن هذه المغالاة، بدل أن تُدان، صارت تُبارَك في بعض الأوساط، وصار بعض الجهلاء يعدّونها مكرمةً وفخرًا، حتى يُقال إن القبيلة الفلانية لا تعفو إلا بملايين، وكأن العفو صار تجارة، لا إحسانًا، وصارت الديات تتفاوت كما تتفاوت أسعار السلع، فهل هذا هو الصلح الذي أمر الله به؟ وهل هذا هو العفو الذي شرعه الدين ليكون بابًا للإحسان؟

إن واجب العلماء، والقضاة، وأصحاب الرأي أن ينهضوا لمواجهة هذا الانحراف، وأن يضعوا حدًّا لهذه الفوضى التي تُفرغ الصلح من معناه، وتحوّل الدماء إلى وسيلة للابتزاز والاستغلال.

لا بد من سنّ أنظمة تضبط مبالغ الصلح، وتحدد سقوفها، وتمنع الاستغلال باسم العفو، فليس من العدل أن يتحول القصاص إلى عقوبة لمن لا يدفع فقط، والعفو إلى امتياز لمن يدفع وحده.

ولا بد من إعادة التوعية بمقاصد الشريعة، وتبيين أن العفو لا يكون نبيلاً إلا إذا صدر عن قناعة، لا عن مساومة، وأن العدل لا يتحقق إلا حين يُرفع الظلم عن الجميع، دون محاباة ولا تمييز.

إن الدماء لا تُباع ولا تُشترى، والعدالة لا تُقاس بمقدار المال، ومن أراد العفو فليعفُ لوجه الله، لا طمعًا في الملايين، فإن لم يكن ذلك، فليُترك القانون ليأخذ مجراه، ولتُطبّق أحكام الشريعة كما أنزلها الله، بلا إفراط ولا تفريط، فإن العدل إذا فُقد، لم يبقَ للمجتمع إلا الفوضى، وحينها لن يكون هناك صلح ينفع، ولا دية تُجدي، بل سيكون الجميع في دائرة الخطر، حيث لا يأمن أحد على دمه، ولا يطمئن أحد على حقه.
 0  0  3.5K