المؤسس

رأسلنا

المبوبة

الخصوصية

عـن غـــــرب

فريق التحرير

  • ×
الأحد 2 فبراير 2025
طارق محمود نواب _ سفير غرب
طارق محمود نواب _ سفير غرب

الدفع المسبق

ليس كل ما يُدفع يُسترد، وليس كل ما تُقدمه يعود إليك بنفس القيمة. إذ أن هناك أشياء حين تقدمها مقدمًا، لا ترفع من قيمتك، بل قد تُنقصها. فالمجاملات المبالغة والعطاء الزائد عن الحد والتضحيات التي تُبذل دون تفكير؛ ما هي إلا أشكال من الدفع المقدم الذي يضعك في موقف أقل مما تستحق، ويجعل الآخرين ينظرون إلى عطاءك وكأنه واجب، لا هدية.
ولأننا لا نعيش في عالم يُقدّر البذل بلا حدود. فحينما تضع نفسك في موضع مَن يبادر دومًا بكل شيء فأنت لا تعكس بذلك قوة كرمك بقدر ما تُظهر استعدادك للتنازل. وربما هنا، تقع المشكلة.
إن العطاء بلا مقابل قد يبدو جميلًا في الخيال، لكنه في الواقع يُفسد العلاقات. وهذا ليس لأن العطاء في حد ذاته عيب، بل لأن البشر يميلون إلى الاعتياد. فما تُقدمه من حب زائد ومن تضحيات لا تنتهي حيث يتحول إلى حق مكتسب. فتجد نفسك في نهاية المطاف وحيدًا في العلاقة، تحاول أن تفهم متى وكيف تحولت من شخص يُقدر الآخر إلى مجرد مصدر دائم للخدمات.
وإلى جانب ذلك، فالمشكلة الكبرى أن الدفع المقدم يُضعف الحدود و تلك الخطوط التي تُعرّف من نحن وما الذي نستحقه. فالحدود ليست جدرانًا، بل هي مرآة تُخبر الآخرين أن ما نقدمه له قيمة، وأننا ننتظر مقابلًا يُظهر التقدير. وبدون هذه الحدود، يُصبح العطاء بلا طعم، مجرد عادة للطرف الآخر، لا تثير فيه الامتنان أو حتى الوعي بما يبذل من أجله.
والأمر الذي يزيد الأمر تعقيدًا هو أن البعض يظن أن استمرار العلاقة مرهون بهذا الدفع المقدم حيث يخاف أن يقول لا، أو أن يتوقف للحظة ويتساءل: ماذا عني؟ ويخاف حتى أن يدرك أن كل هذه التضحيات لم تُبذل من أجلهم، بل كانت محاولة غير واعية لكسب حب أو قبول لم يُطلب يومًا بطريقة صحيحة.
ولكن، ماذا لو قررت أن تتوقف عن الدفع المسبق وأن تعيد التوازن؟ ربما ستكتشف أن العطاء الحقيقي لا يُقاس بكمه، بل بكيفية استقباله. فمن يحبك سيظل قريبًا منك، حتى لو توقفت عن التضحية بكل ما لديك. ومن يقدرك سيحاول أن يقدم لك شيئًا بالمقابل، ولو كان بسيطًا.
فالحياة ليست قائمة على نظام الدفع المسبق. إنها أشبه بمقايضة متوازنة، حيث تُعطى لتُؤخذ وتُمنح لتُمنح. ولكن حين تنسى هذه القاعدة وتتحول إلى شخص يعطي بلا وعي، تبدأ في خسارة ليس فقط ما تُقدمه، بل نفسك أيضًا.
لذا، حين تفكر في العطاء، فكر في الحدود. فكر في أن كل كلمة وكل لفتة وكل تضحية، يجب أن تُقدَّر. وإذا لم تُقدَّر، فهذا ليس خطأك، بل خطأ النظام الذي وضعت نفسك فيه.
فالدفع المقدم ليس ضمانًا للحصول على الأفضل. بل هو طريقة لجعل الآخرين ينسون أن ما تُقدمه له قيمة. ولذلك، توقف عن السعي لإرضاء الجميع. لأنك حين تفعل، لن تجد من يُرضيك أنت.
 0  0  1.8K