المؤسس

رأسلنا

المبوبة

الخصوصية

عـن غـــــرب

فريق التحرير

  • ×
الجمعة 17 يناير 2025
طارق محمود نواب _ سفير غرب
طارق محمود نواب _ سفير غرب

كلام الناس لا يقدم ولا يؤخر

كلام الناس هو تلك الظاهرة التي تلتف حولنا كما يلتف الهواء، حاضر دائمًا لكنه قد يحمل في طياته أنسامًا عليلة أحيانًا، ورياحًا عاصفة أحيانًا أخرى. هو حديث لا ينقطع ولا يُمكن إسكاته؛ يقف عند أعتاب القلوب وينفذ أحيانًا إلى أعماقها، وقد يُشعل فيها صراعات لا تنتهي. ومع ذلك، فإن قوة تأثيره لا تكمن في الكلمات ذاتها، بل في المساحات التي نمنحها لها داخل عقولنا.
إن الإنسان بطبيعته كائن اجتماعي، يعير اهتمامًا لما يُقال عنه، ويتأثر بردود أفعال الآخرين. لكن المعضلة تكمن في أن كلام الناس، في كثير من الأحيان، لا يعكس حقائق أو رؤًى موضوعية فهو أشبه بموجةٍ عابرةٍ، تختلط فيها الأحكام المسبقة بالنوايا الخفية، والمبالغات بالملاحظات الصادقة. فالكلمات التي تأتي من عدو، رغم قسوتها، قد تكون متوقعة ولا تخترق دروعنا النفسية بسهولة. أما الكلمات التي تصدر عن قريب أو صديق، فهي تحمل وطأة أكبر، لأنها تضرب في نقاطٍ لم تكن مُعدة للدفاع. وهنا تكمن خطورة كلام الناس سواء في قرب مصدره أو في الطريقة التي يُعيد بها تشكيل أفكارنا عن أنفسنا،
وغير ذلك فالمثير للدهشة هو حجم السلطة التي نمنحها لكلام الناس. فكم مرة تأخرنا عن اتخاذ خطوة مهمة، أو تراجعنا عن قرار حاسم، فقط لأننا خفنا من الحديث الذي قد يرافقه؟ فإننا دون وعي نصبح أسرى لأصوات لا وجود لها سوى في خيالنا. وهنا يظهر السؤال الذي لا بد أن نطرحه على أنفسنا... فلماذا نمنح الآخرين هذا التأثير غير المُبرر على حياتنا؟
والحقيقة أن كلام الناس ليس حقيقةً بحد ذاته؛ فهو انعكاس لرؤيتهم الخاصة ولرغباتهم وتصوراتهم عن العالم. لكنه ليس مرآة تعكس حقيقتنا أو قدراتنا. فإذا استوعبنا هذا الأمر، فإننا نصبح أكثر قدرة على التعامل معه بمرونة. ولا يعني ذلك أن نتجاهله تمامًا، فبعض الآراء قد تكون نقدًا بنّاءً يحمل فرصًا للتطور. لكن علينا أن نفرّق بين ما يستحق الاهتمام وما لا يستحق، لأن ليس كل ما يُقال جديرًا بأن يحتل مكانًا في أذهاننا أو أن يؤثر على قراراتنا.
فالطريقة التي نتعامل بها مع كلام الناس تحدد مدى تأثيره علينا. فبدلًا من أن يكون سيفًا مسلطًا على أعناق طموحاتنا، يمكن أن نحوله إلى وقود يدفعنا للمضي قدمًا. فلنسأل أنفسنا لماذا نسمح لحديث عابر أن يضع حدودًا لأحلامنا؟ فلماذا نمنح الكلمات قوةً تعادل تلك التي نمنحها لقراراتنا؟ والإجابة تكمن في وعينا بأن ما يُقال لا يحدد قيمتنا... فقيمتنا تكمن في أفعالنا وإنجازاتنا، وفي قدرتنا على أن نكون كما نريد، لا كما يريد الآخرون.
إن كلام الناس سيبقى موجودًا ما دام هناك بشر. لكنه، في حقيقته مجرد صوت في الخلفية، لا يمكن أن يتحول إلى لحن رئيسي إلا إذا سمحنا له بذلك. فالقوة الحقيقية ليست في إسكات هذا الصوت، بل في تقليص المساحة التي نمنحه إياها داخل عقولنا. فعندما نفعل ذلك، نصبح أحرارًا، قادرين على السير بثقة وسط الضجيج، موقنين بأن أعظم الأصوات التي تستحق الإصغاء هي تلك التي تأتي من داخلنا.
 0  0  2.9K