المؤسس

رأسلنا

المبوبة

الخصوصية

عـن غـــــرب

فريق التحرير

  • ×
الخميس 26 ديسمبر 2024
طارق محمود نواب _ سفير غرب
طارق محمود نواب _ سفير غرب

فن إدارة المسافات

إن ضبط المسافات يعد من أكبر سنن الكون ودلائل عظمة الخالق وذلك ليس فقط في المسافات الملموسة والمرئية فقط... بل في المسافات غير المرئية أيضاً، فالحياة علمتنا أن للمسافات فناً يدعى فن إدارة المسافات، هو تلك القدرة على معرفة متى يجب أن نقترب ومتى يجب أن نبتعد. ومن يستطيع التحكم في هذا الفن هو من يعرف حقاً قيمة البعد والقرب، وهو من يدرك أيضا أن كل تواصل يحتاج إلى توازن مدروس بين الاقتراب والابتعاد.
فالقرب الزائد قد يجرح والبعد الزائد قد يفقدنا الفرص. لذلك، يُقال أن إدارة المسافات فناً يحتاج إلى فهم عميق وحكمة كبيرة، حيث ينعكس تقديرنا للآخرين في كيفية تقدير المسافات، سواء بالقرب أو بالبعد، وبحسب حاجة اللحظة ومتطلبات العلاقات الإنسانية.
فكم مرة سمعت فيها مصطلح احترام الحدود سواء كنت تتلقى هذا النصيحة من شخص، أو كنت تنصح أحد بها؟ وبغض النظر عن الجواب يجب علينا أن ندرك أن لكل شخص على وجه الأرض حدوده الخاصة ومساحته الشخصية التي يعتبرها ملكاً له، فهي جزء لا يتجزأ من كيانه وهويته. وإدراك هذه الحقيقة يسهم في بناء علاقات سليمة ومتوازنة بين الناس، حيث يعتبر فن إدارة المسافات أساساً لفهم أن كل فرد لديه حقه في تحديد مدى قربه وبعده، وعلينا احترام هذه الحدود بدقة واحترام. فقد يكون تحديد الحدود أمراً صعباً أحياناً، ولكنه ضروري للحفاظ على الذات والتوازن النفسي.
إن جمال البشر لا يقوى على وصفه أحد ما لم نقترب منهم، وذلك ليس لِعيبٍ في البشر بل لأن تلك هي طبيعتنا، فنحن طبعنا على النقص وعدم الكمال وهذا ينطبق على الجميع بغض النظر عن أدوارهم أو مكانتهم في الحياة، فالاقتراب الشديد يُظهر القبح ومواطن الضعف كما أن الابتعاد الشديد أيضاً يضيع الملامح تماماً ويلغي مواطن الجمال فيها، وذلك مثله كمثل اقترابك من صورة ما كلما اقتربت أكثر من اللازم كلما اكتشفت فيها مشاكل وعيوب، وكلما ابتعدت أكثر من اللازم بعدت عنك التفاصيل إلى أن تتلاشى وتصبح بلا فائدة.
فلا تحاول أن تصل لأشياء لا يجب أن تصل إليها، ولا تغوص كثيرا في محيطات من حولك، حيث أصبحَ كل ذلك غير محسوب ومرهِق لك دون جدوى... إن فن إدارة المسافات هو بوصلة توجِّهنا نحو الحكمة والتوازن في حياتنا الشخصية والاجتماعية، وأغلب الظن أن ذلك الغوص في حياة غيرك لا يُخرج جواهر ودرر كما تظن... بل يخرج العيوب والنواقص في من تحاول الغوص في أعماقه.
فلا تقترب كثيرا حتى لا تمل منك الناس وتكتشف عيوبهم المخفاة ولا تبتعد كثيراً حتى لا تُنسى أو يجهلوك، فلكل فرد في هذا العالم حدوده الخاصة ومساحته الشخصية التي يعتبرها ملكًا له. فهي جزء لا يتجزأ من كيانه وهويته... وهنا، يكمن الجمال في فن إدارة المسافات، حيث يجد المرء نفسه في حاجة للخروج من هذا الفضاء الضيق الذي يحكم العلاقات الإنسانية، ويدرك أنه بتحديد المسافات الملائمة يتجنب الاختناق والتعب.
ومهما كان الآراء المختلفة التي تؤيد أو تعارض القرب أو البعد، فإن الأمر يتعلق بأهمية فهم كون كل فرد له مجاله الشخصي الفريد، وأن التوازن يكمن في التحكم في تلك المسافات. فلا تتجاوز هذه الحدود حتى لا تتعرض لإزعاج الآخرين، ولا تقطع العلاقات التي قد تكون قيمة ومفيدة. وعلى الجانب الآخر، لا تتباعد كثيراً لدرجة أنك تتجاهل الفرص الثمينة والعلاقات التي يمكن أن تثمر ثماراً جميلة.
فقد علمتنا الحياة ومازالت تعلمنا إنه لكي يبقى الجميل في عينيك جميلا لا تقترب منه كثيراً، فالبعض أجمل من بعيد، ولذلك، حافظ دائما على المسافة بينك وبينهم.
 0  0  5.7K