حضرموت و اليمن2
كنت قد وعدتكم الأسبوع الماضي باستكمال استعراض مقال الشيخ صالح باكرمان على الرغم من امتعاض البعض الذي صاحبه بعض الردود المتشنجة، وقطعاً كلٌ له رايه والاختلاف في الراي لا يفسد للود قضية، ومن الردود العقلانية رد الأستاذ محمد الجابري الذي قال لي (علماء حضرموت يصرّون على أن حضرموت من اليمن الجغرافي خوفاً منهم أن يخرجوا من دائرة الفضائل اليمنية، وأنا مع أن حضرموت تدخل ضمن اليمن الجهوي وليس الجغرافي وهناك فرق كبير وأما دخولها في اليمن السياسي فلم يحصل إلا في القرن العشرين)
وهذا رأيه ويحترم،
ونعود الى بعض الاستدلالات التي تطرق لها الشيخ صالح حول موضوع هل حضرموت من اليمن؟
ولنبدأ بالصحابة من أهل حضرموت:
فعَنِ الأَشْعَثِ بن قَيْسٍ رضي الله عنه: «أن رَجُلاً من كِنْدَةَ وَرَجُلاً من حَضْرَمَوْتَ اخْتَصَمَا إلى رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في أَرْضٍ بِالْيَمَنِ فقال الحضرمي: يا رَسُولَ اللَّهِ أَرْضِى اغْتَصَبَهَا هذا وَأَبُوهُ، فقال الكندي: يا رَسُولَ اللَّهِ أَرْضِى وَرِثْتُهَا من أَبِى، فقال الحضرمي: يا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَحْلِفْهُ، إنه ما يَعْلَمُ أنها أَرْضِي وَأَرْضُ والدي والذي اغْتَصَبَهَا أَبُوهُ، فَتَهَيَّأَ الكندي لِلْيَمِينِ فقال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنه لاَ يَقْتَطِعُ عَبْدٌ أو رَجُلٌ بِيَمِينِهِ مَالاً إلا لقي اللَّهَ يوم يَلْقَاهُ وهو أَجْذَمُ فقال الكندي: هي أَرْضُهُ وَأَرْضُ وَالِدِهِ» [رواه الأمام أحمد وغيره].
فهذا الصحابي الجليل الأَشْعَثِ بن قَيْسٍ ملك كندة، وأعظم زعماء وقادة حضرموت في صدر الإسلام، يصرح بأن الحضارمة -من قبيلتي كندة وحضرموت- اختصموا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم “في أرض باليمن”، ومن المعلوم قطعا أن الأرض التي اختصما فيها إنما هي حيث يسكنون بحضرموت، ويؤكد ذلك أن الكندي اعترف أن الأرض أرض الحضرمي وأرض والده من قبله, فهذا نص صريح بأن حضرموت من اليمن، إلا أن يكون ثمة من يدّعي اليوم أنه أعرف بحضرموت من ملك حضرموت الأشعث الكندي، وأعرف من كل علماء الأمة الذين قرأوا هذه الرواية ولم يعترضوا عليها وفيهم الحضارمة جيلا بعد جيل.
واستدل الشيخ صالح بعدد من روايات التابعين والمفسرين وعلماء السيرة وقال:
) وقد نقل تلك الآثار مئات من المؤلفين في التفسير يصعب حصرهم، ويطول نقل كلامهم، وقرأ تلك الآثار أمّةٌ مضت لم يأت عن واحد فقط من تلك الأمة إنكار أو اعتراض).
وقد قال الإمام العلامة ابن خلدون رحمه الله تعالى: “ونسبنا في حضرموت من عرب اليمن إلى وائل بن حجر من أقيال العرب معروف وله صحبة”
[تاريخ ابن خلدون: 4/ 119].
ونظراً لضيق مساحة العمود سأكتفي بما ختم به الشيخ صالح بحثه بأبيات لعبد يغوث بن وقّاص الحارثي يستنصر فيها ببعض عظماء رجال العرب وفيهم قيس بن عمرو الكندي الحضرمي والد الأشعث وسأنقلها مع قصتها من البيان والتبيين للجاحظ:
“قال: ويبلغ من خوفهم من الهجاء ومن شدة السب عليهم، وتخوفهم أن يبقى ذكر ذلك في الأعقاب، ويسبّ به الأحياء والأموات، إنهم إذا أسروا الشاعر أخذوا عليه المواثيق، وربما شدّوا لسانه بنسعة، كما صنعوا بعبد يغوث ابن وقاص الحارثي حين أسرته بنو تيم يوم الكلاب. وهو الذي يقول:
أقول وقد شدّوا لساني بنسعة
أمعشرُ تيمٍ أطلقوا من لسانيا
وتضحك مني شيخة عبشمية
كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا
كأني لم أركب جواداً ولم أقل
لخيلي كُرّي كرةً عن رجاليا
فيا راكباً إما عرضت فبلغن
نداماي من نجران أن لا تلاقيا
أبا كربٍ والأيهمين كليهما
وقيساً بأعلى حضرموت اليمانيا
كان سألهم أن يطلقوا لسانه لينوح على نفسه، ففعلوا، فكان ينوح بهذه الأبيات، فلما أنشد قومه هذا الشعر قال قيس: لبيك وإن كنت أخرتني” [البيان والتبيين: (3/ 273- 274)].
والقصيدة بتمامها مع كامل قصتها في العقد الفريد في أحداث “يوم الصفقة: ويوم الكلاب الثاني”.
والبيت الأخير محل الشاهد متواتر في كتب الأدب والتاريخ، وقد قرأه آلاف الشعراء والأدباء والكتّاب، فهل قرأتم لأحد هؤلاء اعتراضا على قول عبد يغوث: “حضرموت اليمانيا”؟
فهذا غيض من فيض وقليل من كثير، وكل الذي نريده ترك محاولة تغيير التاريخ والجغرافيا لأجل موقف سياسي.