المؤسس

رأسلنا

المبوبة

الخصوصية

عـن غـــــرب

فريق التحرير

  • ×
الأحد 24 نوفمبر 2024
طارق محمود نواب _ سفير غرب
طارق محمود نواب _ سفير غرب

عمى الألوان فى اللوحة البشرية

إن التفاوت البشري يشبه في ذاته ألواناً متعددة في لوحة فنية تتنافس وتتحاور معاً لتكوين تراكيب فريدة ومدهشة. فمثلما يتعايش اللون الأزرق مع الأحمر والأصفر، يتعايش البشر بتنوع ثقافاتهم ولغاتهم ومهاراتهم المختلفة وهذه التراكيب الفريدة تُغني البشرية وتُفسح المجال لتشكيل صورة رائعة ومتكاملة للبشرية. فتلك الصورة هي التي تعكس تنوعاً ثقافياً واجتماعياً ولغوياً يُعزز التفاعل والتبادل والتعلم المتبادل بين الأفراد.
فكل فرد في هذه الصورة يمتلك قدرات ومهارات فريدة تجعله يسهم بشكل فريد في تكامل الصورة الكبرى. فمثلاً قد يتميز شخص بمعرفة عميقة في العلوم، بينما يبدع آخر في تحليل الأدب، ويتقن شخص آخر مهارات القيادة، ووسط كل ذلك تكمن القوة الحقيقية للتفاوت البشري في التكامل الذي يحدث بين هذه القدرات والمهارات، حيث يستطيع البشر التعلم وتطوير أنفسهم عن طريق التكيف مع هذا التفاوت.
فبينما يرى أحد الأشخاص في لوحة ما أن كل شيء متزعزع، وغير ثابت بسبب ضعف نظره وبسبب أصابته. يرى آخر أن اللوحة بكامل ألوانها، لكنه لا يرى فيها أي من الجمال، وأي من هذا المقومات الجمالية حسب تصوّره واعتقاده وذلك لأنه يفتقد ملكة الذوق الحسى؛ فعلى الرغم من أنه بصير العينين، لكنه أعمى البصيرة.
لكن هل نقوى على قول أن أي من أولئك الأشخاص ليس على حق أو إنه كاذب؟ بالطبع لا، فكل منهم قال ما رآه حقيقة، وأخبر عمّا استنبطه عقله، واندفعت به نفسه.
فبفضل هذا التفاوت، نستطيع تحقيق إنجازات استثنائية في مختلف المجالات، سواء في العلوم والفنون والرياضة أو القيادة والابتكار وإن تلك الصورة متكاملة تزخر بالتعاون الإبداعي حيث يتجاور الأفراد بكل تفاصيلهم الفريدة، وتدعم بعضهم البعض لتحقيق الطموحات المشتركة.
وقد نصل ايضا بفضله إلى جزء كبير من الحقيقة ، ونقترب من الكمال أكثر عندما نؤمن أن القصور فينا، وعندما نسعى لتحسينه وندرك طبيعة هشاشة الطبيعة البشرية، وأن جميع البشر يشاهدون الحقيقة على أساس استنتاجهم الشخصي وتجسيدها ولن يتحقق الاستدلال الأقرب إلى الكمال إلا إذا قدمنا جميعاً جزءاً من خبرتنا وكنا صادقين في منحه، وهذا شيء بعيد بسبب الغرور الإنساني وحب الاحتكار المتأصل في البشرية.
فرؤية الأشخاص للوحة بلونها الأزرق فقط لا يعني إلّا نصف العمى الذي يعمل على حجب الحقيقة الكاملة عن المثول أمامه، وكذلك الحال في من لا يرى إلا اللون الأحمر. وبالطبع من لم يرى أي من اللونين مصاب بعمى تام للألوان، لكنه سيرى فقط عندما يدرك مواطن ضعفه، ويعالجها، ويعترف بوجود ذلك الجزء الناقص والمحدودية في الإدراك، ومدى القصور الإنساني.
ومن خلال تلك اللوحة يمكننا جعلها المرآة الحقيقية لحياتنا وتجسيده لواقعنا النسبي وتشريحاً له، فالإنسان بطبعه في أغلب الأحوال لا يرى نصف الحقيقة، ولن يصل أحد إلى المدلول الحقيقي الذي تعنيه هذه اللوحة أبدا، فمن الممكن أن يصل البعض إلى جزء كبير منها ممن يوفقون رؤى النظر ويمزجون المتناقضات، لكن ليس كلها، وبالتأكيد سيتأثرون بإحدى الآراء التي ستنقل إلى عقلهم، وتخاطبه بمنطق العاطفة، فيكون صاحب النصيب الأوفر من الكعكة، مما يحجب جزء كبير من الحقيقة.
ولذلك سيظل النقص وعدم إدراك المعرفة الحقيقة مادامت النفس البشرية تمتلئ بالشوائب والنقائص ويحيط بها الشك في المعرفة وتعمل على حجب الرؤية وتعكيرها وتشويشها. ولن نتمكن من الوصول إلى ضفة الحقيقة إلا عندما ندركها ونفهمها، وعندما نتقبل طبيعة الاختلاف والتنوع بين البشر. فالتفاوت البشري ليس مجرد اختلافات فردية، بل هو تعبير تفاوت بين الفرد والآخر، العقل والآخر ليعبر عن تنوع البشرية وثروتها الفريدة.
 0  0  14.1K