معالم الإبداع العلمي لدى الدكتور عبدالوهاب أبو سليمان
فجعت الأوساط العلمية في العالم الإسلامي بنبأ رحيل شيخنا وشيخ شيوخنا معالي الدكتور عبدالوهاب بن إبراهيم أبو سليمان،عضو هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية سابقا،وعضو المجامع الفقهية،والذي رحل عن دنيانا في أواخر شهر رمضان المبارك لهذا العام 1444هـ، تاركا وراءه إرثا علميا كبيرا متمثلا في كتبه وبحوثه ودراساته وتحقيقاته العلمية الرصينة،والتي توج على إثرها بجائزة الملك فيصل العالمية في الدراسات الإسلامية عام 1435هـ،وهذه قراءة موجزة في فكر معاليه من خلال بحوثه ودراساته محاولا استنباط أهم معالم الإبداع والتجديد لديه، وينتظم ذلك في المعالم التالية:
المعلم الأول:المنهجية العلمية
فكتب الشيخ رحمه الله ودراساته مؤسسة تأسيسا منهجيا منضبطا،ولا غرو في ذلك، فهو من أوائل من كتب في مناهج البحث العلمي في الدراسات الإسلامية،وله في ذلك سلسلة كتب ودراسات شملت مختلف فروع الدراسات الإسلامية،وشملت كذلك الجانبين النظري والتطبيقي،ولاتزال كتبه إلى اليوم مقررا أساسيا في برامج الدراسات العليا الشرعية في الجامعات.
وقد مارس هذا الانضباط المنهجي عمليا،فبحوثه مرتبة ترتيبا منطقيا سليما،يتدرج بها من السهل إلى الصعب،ومن المعلوم إلى المجهول،ومن المتفق عليه إلى المختلف فيه، وهو كذلك بارع في توظيف أدوات البحث العلمي،من توثيق واقتباس وعلامات ترقيم وغيرها،فهو يلتقط اقتباساته التقاطا يُتعجب منه من بطون الكتب،قبل أن تظهر محركات البحث وبرامج الحاسوب،مما يدل على قراءاته الواسعة واطلاعه العميق على الموضوع الذي يكتب فيه.
المعلم الثاني:العمق العلمي
فعندما يناقش قضية معينة يدرسها من جميع جوانبها، محققا للأقوال،وموازنا بين الآراء، ومناقشا للأدلة،ومجيبا عن الاعتراضات،ومن أمثلة ذلك:أنه -رحمه الله- من أوائل من بحث قضية البطاقات الائتمانية البنكية،قبل اكثر من ربع قرن،وقد رجح في بحثه أن الاسم الصحيح لها هو ( البطاقات البنكية الإقراضية والسحب المباشر من الرصيد)، حيث رجع إلى المصطلح الأصلي باللغة الإنجليزية- وساعده في ذلك إتقانه للغة الإنجليزية-وبين أن كلمة( Credit ) في المصطلح الاقتصادي والتجاري والقانوني الإنجليزي والأمريكي تعني الإقراض وليس الائتمان،ثم درس المسألة قانونيا واقتصاديا، ليخلص بعد ذلك إلى بيان الحكم الفقهي لهذه النازلة، وهذا البحث قدم لمجمع الفقه الإسلامي الدولي،ولمجلس هيئة كبار العلماء في دورته السابعة والأربعين عام 1418هـ، ثم طبع مستقلا.
المعلم الثالث:الاستناد إلى القواعد والأصول والمقاصد
لاتخفى أهمية القواعد الفقهية وأصول الفقه ومقاصد الشريعة في استنباط الأحكام، فمن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات لاندراجها في الكليات واتحد عنده ماتناقض عند غيره، كما يقول القرافي- رحمه الله-.
وللشيخ عناية بالغة بالقواعد الفقهية وأصول الفقه ومقاصد الشريعة، سواء بالتأليف المباشر فيها،أو بتوظيفها في استنباط الأحكام والاستدلال لها، فمن مؤلفاته في القواعد: النظريات والقواعد في الفقه الإسلامي،فقه الضرورة وتطبيقاته المعاصرة آفاق وأبعاد، ومن مؤلفاته الأصولية والمقاصدية:الفكر الأصولي دراسة تحليلية نقدية،المقدمة الأصولية للفقه المالكي،الترك في التشريع والتكليف دراسة أصولية فقهية مقاصدية، المقاصد في المناسك،وغيرها.
أما توظيفها في الاجتهاد والاستنباط فظاهر من خلال بحوثه ودراساته فقلما يبحث مسالة او قضية إلا ويربطها بالقواعد والأصول والمقاصد.
المعلم الرابع:الجدة والأولية
فالشيخ – رحمه الله- لايكتب في أي قضية كيفما اتفق، بل يعنى عناية فائقة باختيار موضوعاته،بحيث تكون من الموضوعات التي تشتد حاجة الناس لها،وكثير من الموضوعات التي طرقها كان هو أول من افترعها ومهد الطريق للباحثين فيها،ثم جاء من بعده واقتفى أثره وبنى على ماأسس وفرع على ما أصل، ومن امثلة ذلك: البطاقات البنكية، وعقود التوريد والاختيارات والتملك الزمني،وغيرها.
والشيخ–رحمه الله-من أوائل من بحث قضية توسعة المسعى فقهيا وتاريخيا،وبناء على بحثه هذا صدر قرار توسعة المسعى في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز يرحمه الله.
المعلم الخامس:الموسوعية
يعد الشيخ رحمه الله من العلماء الموسوعيين،فمع ان تخصصه الرئيس هو الفقه وأصوله،إلا أنه لم يقصر نفسه عليه، فله مؤلفات كثيرة في التاريخ وخصوصا تاريخ مكة المكرمة،وله كذلك بحوث وتحقيقات في تراجم أعلام العصر،ومؤلفات في الرد على بعض الفرق المعاصرة.
وتتجلى موسوعيته في تكامله المعرفي حيث اجتمع فيه الفقيه بحكم تكوينه الأصلي ودراسته الأولى، والقانوني بحكم حصوله على درجة الدكتوراه في القانون المقارن من جامعة لندن عام 1390هـ،والمؤرخ بحكم اهتمامه البارز بتاريخ مكة المكرمة وأعلامها والذي نال بموجبه جائزة الملك فيصل العالمية،وهذا التنوع والتكامل المعرفي قل أن تجد له نظيرا في فقهاء العصر.
هذه إلماحة موجزة عن عوامل الإبداع والتجديد لدى معالي الدكتور عبدالوهاب أبو سليمان،سائلا الله تعالى أن يتغمده برحمته ويسكنه فسيح جناته، إنه سميع مجيب.
_______
*أستاذ الدراسات العليا الشرعية بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة أم القرى