فبُهت الذي كفر
في فن المحاورة والحِجاج؛ احذر أن تجادل رجلا في قضية يفني حياته من أجلها؛ أو تجادل رجلا في عقيدة راسخة عنده مهما كانت نسبة اعتقاده فيها، أو أن تتحدى خصمك أمام الخاصة والعامة وأنت تعلم أنك تسبح ضد التيار؛ لاسيما إن كانت قضية كونية هي مسلمات فطرية. واحذر ألّا تحترم ذكاء خصمك. أو أن تظن أن المظهر والجلبة والصخب يغلب العقل والمنطق، ضع كل ذلك في دائرة وعيك.
الباحثون في علم المحاورة والحِجاج يستشهدون كثيرًا بحوار سيدنا إبراهيم مع النمرود؛ هذا الذي تخلى عن كل تلك المهارات، وفشل في جميع المستويات الحوارية؛ لأنّه كان يحاور بصخب وجلبة؛ لا بمنطق وعقلانية؛ وكان يجادل رجلا هو في كامل قواه الإدراكية والمنطقية، كما أنه على استعداد للتخلي عن روحه مقابل دعوته، صحيح كان صغيرًا في العمر؛ لكن ليس تقدم العمر هو مؤشر الحكمة في كل الأحوال؛ فقد يفقه ما لم يفقه الشيوخ؛ إن إبراهيم كان أمة.
غاص النمرود في الحمق متبعا أقوال السحرة والشياطين في بابل، أوهموه أنه الرب، أو قل أوهم نفسه؛ لأنه لم يسأل نفسه يوما؛ كيف يولد الرب بعد البشر؟ وهل هو من أوجد هؤلاء البشر في بابل وغيرها من الدنيا؟ وهل أوجد نفسه؟ فليصف لنا تلك العملية؛ وهل يستطيع إعادتها مرة أخرى حتى ولو في بعوضة؟ وهل إن ماتت يستطيع ردها حقيقة لا سحرا ودجلا؟ هل يوما فكر النمرود في ماهية الرب الحقيقية؟ إن الإله لا يُدرَك بالعقل المحدود هذا؛ وإلا فهو إله محدود، والإله المحدود ينتهي؛ والإله الذي ينتهي ليس جديرًا بالعبودية؛ لأنّه إذا انتهى يومًا فمن يعبد الناس بعده؟ وإن كان ينتهي فله بداية؛ إذن فماذا كان يعبد الناس قبل بدايته؟
كل تلك الدركات نزل فيها النمرود أول دجال على وجه الأرض، ودخل معركة خاسرة دون إعداد أو تجهيز مع شاب وهب جل حياته لتلك المعركة، وكان بحق أمة؛ لأنه جاهد في الله وحده، وكابد الطرد والنبذ من أبيه وقومه ومن كل مجتمعه، كان يبدو في ناظرهم عنصرًا غريبًا، فردًا واحدًا يخالف قطيعًا كاملا، قاسى الغربة الفكرية والروحية بينهم أعواما؛ كان إبراهيم هو البقية الباقية على الفطرة السليمة مِن ذرية مَن حُملوا مع نوح؛ ومنذ صغره وهو يفكر خارج ذلك الإطار الضيق من عقول الحمقى والمغفلين؛ بداية من أبيه وإخوانه ومن حوله؛ كان لا يسير على ذلك الدرب المعتاد؛ وكم من عادات طمست عبادات، وكم من عادات عبدها الناس وظنوها عبادة، هذا الظن تحول يوما ما يقينا حينما تزعم النمرود ظنون سحرة بابل ودجاليها، وراح كالمجنون يقنع الناس بصحتها؛ بل ويزيد عليها مما تمليه عليه الشياطين.
سؤال يطرح نفسه: كيف ادّعى الربوبية قبل أن يحاج بها إبراهيم؟ حينما اتسعت الهوة بين النمرود وبين المجتمع وبعد عنهم وعن حياتهم؛ ولم يشاركهم فيها؛ وجد أن البون بينه وبين الناس كبير والمسافة بعيدة؛ فسولت له الشياطين ونفسه أن ثمة تفرد وتميز على هؤلاء؛ وراح يتهم الناس بأنهم ليسوا من جنسه وليس من جنسهم، وماداموا هم البشر والعبيد؛ إذن ينقصهم الرب؛ ولم يجد غير نفسه جديرا بهذا الوهم الكبير؛ فهو يعطيهم ويمنعهم ويرفعهم ويخفضهم ويتصرف فيهم كسلع يملكها؛ لكن كلها أمور دنيا وأساليب حياة في محيط ضيق كعقله الضيق؛ وليس خلقا أو إيجادا من عدم، أو إدارة كون بأفلاكه ومائه ويابسه، أو تقسيم رزق بين مخلوقات في البر وأخرى في البحر وغيرها في الجو، نسي وعميت بصيرته عن كل هذا وذاك، ومع فقدانه لكل هذا وغيره؛ صدق عليه إبليس ظنه؛ وصدق الناس ظنه بنفوسهم الذليلة؛ والنفوس التي تعتاد الذل تبرر له؛ وتخلق له عللا وأسبابا.
ومع ادعائه الربوبية وتملكه لهم؛ تركهم يتعبدون لغيره من الأصنام التي كسرها لهم إبراهيم فيما بعد؛ إذ جعل لهم فسحة من الزمن بإذنه بعيدا عنه؛ لكنهم تحت قدمه بادعائه الربوبية؛ لكن لماذا يبدأ الطغاة مثله بادعاء الربوبية؟ لعل ذلك يكمن في أن بعض صفات الربوبية الظاهرية قد يتصف بها بعض الناس إلى درجة أنهم كانوا يطلقون على الحاكم لشيء أو المتحكم في شيء والمتصرف في شؤونه"رب " ؛ كما هو في قصة "يوسف" " ارجع إلى ربك" أي سيدك؛ لكن يتوهم الجاهل اذ امتلك تلك الصفات أنه رب للكون وإذا زاد طغيانه فإنه يدعي الألوهية كما فعل فرعون وقال "أنا ربكم الأعلى"، وقال "ما علمت لكم من إله غيري."
على الجانب الآخر إبراهيم بكل ثقة يمتلك مهارة المحاورة، ويمتلك الحضور والتحضير؛ هما من أهم مهارات الحوار أن تُحَضِّر جيدا لما تحاور فيه؛ وأن تَحْضُر بشخصيتك الواثقة فيما تعتقد، أبانت المحاورة عن جهل كبير لدى النمرود لمعنى الربوبية التي يدعيها؛ أضف عليه أنه لم يحسن فهم شخصية إبراهيم الشاب المعتد بقضيته " حاج إبراهيم في ربه"؛ كيف تحاجج إبراهيم في ربه وهو الذي أفنى حياته لأجله، أتجادله في قضية هو ليل نهار يدرسها؟! أتباريه في منافسة هو بطلها الذي لا يهزم؟!! مع فقدانه كل تلك المفاهيم قصد إلى اثبات ربوبيته على إبراهيم؛ قال الله تعالى:" حاج إبراهيم في ربه" وهو هنا يجادل في الربوبية وليس في الألوهية؛ لعله يجد من الجمهور داعما له إذ هو المتحكم فيهم، وإبراهيم بحكمته يقوده إلى المعنى الصحيح المنطقي للربوبية بأن قال" ربي الذي يحيي ويميت" فالله الرب الوحيد هو الذي يحيي ويميت بحق وهذا منطق، ثم رد النمرود يدافع عن ربوبيته من غير منطق؛ قال: "أنا أحيي وأميت"، وضرب مثلا لإبراهيم بأنه يحكم على أي شخص حي بالموت؛ فبذلك هو يميت، ويخرج من حكم عليه بالموت فيطلقه فيكون أحياه، هكذا عنده الإحياء؛ لكن الإحياء هو أن تحيي ميتا لا تحيي حيا لم يمت أصلا، كما أن الموت والإحياء الذي قصده إبراهيم يكون بكلمة من الإله بقوته وقدرته بإدارة الكون كله؛ فهب أن هذا الذي أطلقته وقلت إنك أحييته هب انه بعد يوم من خروجه مات؛ فمن الذي أماته في حين أنك تزعم أنك أحييته؟!؛ فالقضية التي لا يفهمها النمرود أن إبراهيم يريد أن يبلغه أن الله يحي ويميت بكلمة "كن فيكون" ولا يستعين بأحد، وأنه سبحانه يحي ويميت في فرد واحد؛ يميته ويحييه هو هو، لا يأمر بموت شخص ثم يطلب إحياء غيره؛ فالله تعالى يعلم متى يحي ومتى يميت، وليس في لحظة طارئة لحدث طارئ أو حكم بشري، والله يعلم من سيموت ومن سيحيى بعلمه المسبق، أراد إبراهيم أن يقول له أين علمك المسبق بقضية الإحياء والموت.
إن كان قد سكت إبراهيم بذكائه عن هذه لعدم فقه النمرود وجمهوره بعمقها؛ وحتى لا ينشطر إلى الجدال المفضي لضياع القضية؛ فهو في الحقيقة قاد النمرود كالشاه البلهاء إلى مصرعه حينما صدمه بحقيقة منطقية عقلية من حقائق الإله والرب الواحد؛ فيقول له:" فإن الله يأتى بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب"؛ فإبراهيم قال في الأولى:" ربي الذي يحي ويميت.." وهنا يقول :" فإن الله..." ولم يقل ربي، ليقطع كل طريق على النمرود ويثبت لجميع الحضور أن الله هو الإله الواحد والرب الواحد، فالمحاورة لم يرد فيها إبراهيم الفوز على النمرود فحسب؛ بل أراد أن يرسل رسالته للجميع، ويأتي فعل مضارع يدل على التجدد المستمر للحدث لكن رغم ذلك لا نريدك أن تجدد الحدث في إتيانك بها من المغرب كل يوم كما يفعل الله بها من المشرق كل يوم؛ فقط إتِ بها ولو مرة واحدة من المغرب؛ عندها يظهر مقدار عقله المنعدم وينكشف الستار عن أحمق،" بُهت..." كأنّ عقله توقف؛ وأعلن هزيمته؛ لأنه لا يملك أي منطق ولا أي أداة حوار، والإنسان بدون عقل دابة تضر ولا تنفع، أرسل الله للنمرود بعوضة كأنها اشتمت رائحة عقله المتعفن فدخلت إليه؛ فكان أحقر عند الله من بعوضه؛ إذ قتلته بعوضه ولم يرتق أن يقتله بشر، حتى شياطينه فشلت في نصرته، وليس لك بعد عقلك من ناصر ولا جنود.
وهذا مصير من يكفر نعمة العقل لما خلقه الله له؛ عندها يفقد إنسانيته، ويفقد تميزه على باقي المخلوقات، وتبقى باقي المخلوقات في رتبتها التي خلقها الله لها رتبة ثابتة لا تتغير ولا تتحول، لكن رتبة الإنسان هي التي إما أن تثبت على الفطرة وتتسامى في طاعة ربها أو يهوي بها الهوى في واد سحيق. فلا على إنسانيتها أبقت ولا للأنعام انتسبت؛ بل هم أضل سبيلا. حطب تم تجفيفه بيد إبليس وقودا للنار.