المؤسس

رأسلنا

المبوبة

الخصوصية

عـن غـــــرب

فريق التحرير

  • ×
الجمعة 29 مارس 2024
د. محمد أبواليزيد أبوالحسن
د. محمد أبواليزيد أبوالحسن

حوارٌ على بئر مدين

قليلةٌ تلك الحوارات التاريخية التي لها ما بعدها؛ وكأنّ الحوار يقوم مقام باب مدينة عجيبة؛ لا تفتر من التأمل في جمال صنعته ومصاريعه ومفاتيحه ومغاليقه وطوله وعرضه وتفاصيله؛ حتى يرسل لك رسالة إعجاب وتشويق لما وراءه الذي هو أعظم، تلك الحوارات التي تعكس لك عن أحقاف نفوس بشرية حُشيت أخلاقا وتزاحمت مكارمَ؛ تهتز لتلك الكلمات الحوارية وتطرب من الردود البلاغية، وتسافر إلى ذلك الزمن؛ تقف على جانب بعيد في صمت؛ لترقب تلك الأحداث وهؤلاء المتكلمين؛ وتصغي إليهم إذ يخترقون العصور إلى أذنك وعقلك؛ وودتُ لو أنك واحد منهم؛ ولعل المرء بكرم الله يؤجر على أعمال الخير التي رضي عنها حتى وإن لم يشهدها، لأنّه يأثم على أعمال الشر إن رضي عنها حتى وإن لم يشهدها. وها نحن مع موسى يفر هاربًا من فرعون؛ يترقب الطريق خائفًا، حتى يقف هناك على بئر مدين ليسمعنا حوارًا عظيمًا رغم إيجازه؛ يعكس لنا أخلاقه وأخلاق "بنات مدين"، لنقف على زاوية من زوايا قانون الحوار بين الرجل والمرأة.
"فلما توجه تلقاء مدين"؛ كلمة "تلقاء" توحي بأن الوجهة كانت محددة سلفا؛ فلم يتجه غربًا غرب مصر، أوجنوبًا إلى السودان، أو شمالا إلى البحر؛ فكل هذه الجهات لم تكن متفاعلة أو فاعلة في تلك الفترة بالشكل الذي يرتضيه موسى، وإنما كانت جهة الشرق هي الجهة التي يحكيها التاريخ العبراني والتاريخ الكنعاني وكل تاريخ الأمم السابقة الصالح منها والفاسد، وكانت "مدين" إحدى البلاد الباقية في التاريخ ببقاء بعض المصلحين فيها بعد هلاك المفسدين؛ فتوجه إليها موسى عسى أن يلقى بقية باقية من هؤلاء المصلحين من قوم شعيب. وكانت دعوته :" عسى ربي أن يهديني سواء السبيل"؛ وهذا يعلمنا حسن التوكل على الله بالنية الصالحة في القلب؛ وحبذا التلفظ بالدعاء في مثل تلك الحال وهو مهاجر؛ وتلك دعوة مادية؛ بأن الله يرشده إلى مدين ومن أقرب طريق لها، ودعوة معنوية بأن يهديه الله لأهل الهدى وأهل الصلاح؛ فلا يبتليه بغيرهم؛ كالذين تركهم وراءه من الفراعنة.
"ولما ورد ماء مدين وجد أمة من الناس يسقون"؛ هنا كثرة من الخلق؛ تجتمع على فعل واحد؛ ينم على مصلحة شخصية؛ لا يساعد فيهم أحدٌ أحدا؛ وإلا كانت البنتان أولى إن كان في الناس خير، لكن ربما هناك فرد واحد يقوم مقام جماعة كاملة؛ كذلك موسى "وجد من دونهم امرأتين تذودان..."؛ وكل امرأة تحمل الحياء في نفسها؛ تذود عن عرضها، كل امرأة تحمل الحياة؛ تقف من دون الرجال، ولا تقترب إلا لضرورة. كل امرأة تحمل الحياة تأخذ عهدا على نفسها أن تحفظ نفسها بعيدة عن الشبهة.ويبقى الرجل رجلا بتعامله؛ "قال ما خطبكما..."، يخاطب الفتيات بصيغة الجمع لا المفرد، فمخاطبة المفرد في وجود الجمع خطاب موجهة ويثير الشك في مقصده؛ حتى وإن صلحت فيه النية؛ فللشيطان مسالك وأزقة ودروب.
ولما كان الرجل رجلا كانت المرأة العاقلة عقيلة؛ وردت بالأسلوب نفسه الجمع لا المفرد حين وصف لنا ربنا ردهما على موسى، "قالتا..."؛ فالجواب مشترك بلسان الاثنتين؛ حتى لا يحمل دلالة الخطاب المفرد الموجه؛ وكأنّ صورة الألف " ا " مرسومة بعد نقطتي التاء في الكلمة تشير إلى الفاصل بينهن وبينه كالحجاب الساتر لهن دونه؛ قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء...قاعدة ثابتة لهن في كل مرعى؛ في الماضي والحاضر والمستقبل كذلك؛ شيء متكرر تفعله البنتان، "نسقي" مضارع يدل على تجدد الفعل في كل يوم؛ فعل مُتعب؛ لكنه يحفظ لهما كرامتهما لفرط حيائهما وعصمتهما، ولا تستبعد أن إحداهما يومًا دعت الله تعالى أن يخلصهم من هذا العمل الشاق؛ فأرسل الله لهم موسى من مصر يهرول على قدميه.وقد كان أبوهما " شيخ كبير..."؛ قال العلماء: إن البنتين هنا تعللان الخروج؛ فالخروج في ذاته ليس ممنوعًا ولا محرمًا كما يظن بعض المتشددين؛ لكن لابد أن يكون لعلة تسانده، وكأنّ الجملتين للبنتين: قالت واحدة تعلل عدم الاختلاط بالقوم حياء :"حتى يصدر الرعاء"؛ أي حتى ينتهي الناس وينصرفوا، والأخرى تعلل الخروج لكبر أبيهما وقعوده عن العمل؛ فهو متقاعد، وليس لهما من يعولهما."فسقى لهما" سرعة الاستجابة من موسى توحي بنقاء المروءة التي تحركه، وكأنّ السقي جاء لله في صورة عطفه على حالهما؛ أي سقى لأجل حالتهما، وتكرمة لأبيهما الشيخ الكبير، وكلمة سقى تحمل معنى الري للبنتين كذلك؛ فسعادتهما بالموقف روت منهما ظمأ معنويًا كبيرًا تشعران به، بل تعيشانه منذ فترة، وهو الحاجة إلى رجل شهم كريم كهذا يسدل عليهم من رجولته سترا وكرما وكرامة.
" ثم تولى إلى الظل" مدة السقي مع موسى لم تأخذ وقتا طويلا؛ بعدها جاء الحرف " ثم " يدل على تراخي في الحدث بعد السقي؛ ومن ثَّم هناك أمور حدثت مع موسى بعد أن تولت البنات عبّر عنها حرف العطف " ثم "؛ فقد يكون قدم مساعدة أخرى لغيرهم من الناس، أوقد يكون سقى نفسه؛ والساقي آخر الناس شربًا، وقد يكون غيرذلك؛ ثم تولى إلى الظل.ولا أحد يرى الظل في الهجير ثم لا تراوده نفسه السير إليه؛ وموسى مجهد من سفره متعطش للراحة، وليس وراءه من أمور الدنيا ما يستفزه عن راحته، لا سيما الوقت وقت القيلولة، وحينما يخلد المرء المجهد إلى الراحة تراوده نفسه إلى ما يفتقره؛ ويتخيله أمامه؛ ليزيل عنه ما علق بنفسه من أتربة الفكر ووعثاء الطموح؛ فـ"قال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير."؛ ومن الحكمة والفطنة في الدعاء ذكر النعمة والشكر قبل ذكر المفقود والمطلوب؛ فالشكر باب العطاء ومفتاحه، وموسى يعلم ما تفتقر إليه نفسه؛ والله عليم بذات الصدور، ولعل موسى نام بعد دعائه فكأن النوم أيضا كان مما هو يفتقر إليه؛ لذلك جاء الحدث التالي لذلك مباشرة هو "فجاءته إحداهما" ؛ سرعة في استجابة الدعاء وانه في علم الله قد تم، ولم يبق إلا أن تتم واقعيا كما أراد الله لموسى من دعوته في شكل بشري؛ والفاء تأتي مع انعدام الزمن أو قصر أحداثه وتسارعها ؛ وكأن ديارهم على مقربة من موسى ملاصقة للبئر؛ وهذا مستبعد؛ لأن المرعى يكون بعيدا عن الديار، بقى أن تكون الفاء توحي بانقطاع الزمن عند موسى؛ والزمن لا ينقطع إلا بنوم أو بموت؛ والفعل الذي يلي الدعاء هو المجيء؛ لكن كيف بهذه السرعة؟ أين زمن ذهابها؟ وزمن حديثها مع أبيها عنه؟ وأين زمن رجوعها لموسى؟، الإجابة تكمن في أن الزمن انقطع هنا عند موسى حينما نام تحت الظل؛ فانقطعت المسافة الزمنية لموسى بين الفعلين بعد الدعاء؛ لأن موسى لم يشعر بكل تلك الأحداث؛ لأنه نائم والله قال "فجاءته" وكأنّها فاجأته والمجيء يتطلب مشقه غير الاتيان؛ وهي تجيء من مكان بعيد؛ لا سيما وهي تمشي على استحياء؛ والفاء جاءت تعكس زمن موسى لا زمن البنت؛ لذلك جاء الضمير معبرًا عن موسى "فجاءته"، ولم يقل "فجاءت" فحسب.
حينما جاءت جاءت "تمشي على استحياء"؛ والذي يمشي على استحياء بلا شك سيقول على استحياء، وليس كل من يقول على استحياء يمشي على استحياء؛ فقد يكون الحياء في القول من عي أو من مرض، لكن المشي على حياء رأس الأفعال والأقوال. وهنا بنات مدين اثنتان: إحداهما خرجت تمشي على استحياء، والأخرى ربما منعها حياؤها من أن تخرج مرة ثانية؛ فالحياء يزيد مشقة صاحبه ويرهق روحه؛ فالبنت جاءت يحملها الحياء وتحمله؛ فزاد من مشقتها وتعبها وإرهاقها في تلك الفترة الزمنية؛ فقد قطعت الطريق مرتين ذهابا وإيابا، وتلك المرة بمفردها ليس مع أختها ولا حتى غنمها تستأنس بها، بل ومعها الحياء يمد لها في الطريق أميالا وأميالا، ويعقد أقدامها، ويكبلها وهي تصارعه وتمشي، ورغم كل ذلك لم تنس التكليف الذي كُلفت به، ولم تلحن فيه أو تبدله؛ بل قالت: " إن أبي يدعوك"، كما قيل دعته باسم أبيها لا باسمها، ولم تقل ندعوك أوأدعوك، وكان سبب الدعوة واضحا مبهما في آن واحد، واضح من حيث سببه وهي السقاية؛ لكنه مبهم من حيث ماهيته ماهو الجزاء ؟ وقدمت سبب الدعوة "ليجزيك أجر ما سقيت؛ دعوة لإعطاء الحقوق لأصحابها، وعدم بخس الناس أشياءهم، وكما تنص القاعدة الفقهية"حق الله مسامحة وحق الناس مشاحنة"، فلا يجوز لمسلم أكل حق أخيه المسلم لا سيما وإن كانا قد اتفقا، وصاحب مدين هنا يعطي تورعا بلا اتفاق مسبق بينه وبين موسى؛ فقط تقوى وورع منه وعدم استغلال للناس. كانت تلك العبارة رسالة ايجابية اطمأن بها موسى؛ إذ كشفت له ميزان العدل والصلاح في تلك المنطقة، بوجود من يأنس به وعلى شاكلة روحه في غربته؛ فلم يجمع الله له بين غربة الوطن وغربة الروح.
سكت الحوار هنا، وكأنها ولت هاربة من خجلها؛ فالتي تخجل من قومها فوق البئر ولم تسقي معهم؛ أجدر بأن تخجل من رجل غريب لا تعرفه. لذلك من المستبعد أن يكون موسى ذهب معها لأبيها؛ لا أمامها ولا خلفها، بل لم تمهله يسألها: كيف أذهب؟ ولم تسمح له مثلها أن يذهب معها في طريق واحد، بل تركته وتركها؛ وجاء يسأل ويجتهد حتى يصل إلى الشيخ الكبير الذي له غنم؛ وبنتان ترعاهما؛ فدُل عليه؛ فوصله بعد عناء ومشقة؛ فالله يقول: "فلما جاءه" وكما أسلفنا بأن المجيء فيه مشقة وهي تلك التي وجدها في البحث عن الرجل والسؤال عنه؛ وتلك هي الأمانة الحقيقة التي وُصف بها ترْكه للبنت لم يذهب معها. ومن ترك شيئا لله عوضه الله به أو بخير منه، فموسى إما أن يكون قد تزوجها هي أو تزوج أختها.
"يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين"؛ فلنترك مساحة لبناتنا ونسائنا لإبداء الرأي وطرح الفِكَر؛ فقد تنبت في عقلها من الفكر العظيمة ما لا ينبت في أفكار الرجال؛ هنا البنت تضع قاعدة عامة في استئجار القوى العاملة؛ أن تتحلى بالقوة والأمانة؛ والقوة مقدمة على الأمانة خاصة في العمل البدني؛ لأنّ الأمانة من غير قوة ربما تُضيّع، فهب أنه أمين لكنه ضعيف؛ فالمال في يده على خطر؛ لأنه ليس لديه من القوة ما يحميه؛ والقوة تشمل القوة البدنية والقوة العقلية؛ ولا شك أن موسى جمع بينهما؛ لأنّ الله قال له:" واصطنعتك لنفسي"؛ ولا شك أن البنت على البئرلاحظت القوتين هاتين، وتقديم القوة كذلك ترتيبا لأحداث القصة؛ فقد لاحظت القوة في حال السقي، ثم لاحظت الأمانة في حوارها منفردة معه دون اختها؛ فلم يسرق النظرات إليها ولا يختلس غفلة منها أو يستميل قلبها بلين القول أو نظرة فاترة؛ فكان أمينا عليها من نفسه ونفسها.
ومثل تلك من النساء هي التي ينفق فيها عشر سنين من العمر مهرًا راعيًا؛ لم يعترض موسى أو يرفض حينما عرض عليه الزواج من إحداهن؛ولا شك أن الاختيار بينهما كان من موسى، ولا شك أن التي ذهبت منفردة كانت هي الأقرب إليه؛ لمعرفته بها أكثر؛ لأنّه كما شاهدت منه قوة وأمانة؛ شاهد منها حياء وفطنة؛ ومثلها هي من تتحمل عما قريب أعباء الدعوة في بني إسرائيل، ومن تكن من الصالحات وتتزوج رجلا نبيًا سيكون من أولي العزم لا شك هي اختيار أمثل من الله تعالى؛ ولكل جبل أشم أرض تحته راسخة تحمله.
 0  0  11.5K