المؤسس

رأسلنا

المبوبة

الخصوصية

عـن غـــــرب

فريق التحرير

  • ×
الأحد 24 نوفمبر 2024
د. محمد أبواليزيد أبوالحسن
د. محمد أبواليزيد أبوالحسن

عيسى لم يكن وثنيًا

تحت سطوة الاستعمار الفكري والجد في الطلب خلف الدنيا؛ تنازل قوم عن مبادئ لهم وقواعد بنيانهم؛ فخر عليهم السقف من فوقهم؛ وباتوا يعيشون تحت ردم الأمم وأتربة البائدين؛ يستنشقون غبار الأساطير القديمة، وينطقون بلسان الجهل، ويتوشحون أردية الوثنية؛ بعدما كانت السماء هي التي تدير حياتهم، وقد كان يكفيهم أن شاهدوا معجزة لم يشاهدها أحد من البشر قبلهم ولا بعده؛ فمن شاهد خلق عيسى ومعجزة ولادته من غير أب؛ هي كمثل خلق آدم من غير أب ولا أم.
لقد كان المسيحيون يعيشون مع المسيح ويعيشون به؛ تلقوا صنوف التغريب والتعذيب من اليهود والمسيح بينهم، ولما رفعه الله؛ زاد بلاؤهم، وتناوشتهم اليهود من كل جانب، ورغم أن المسيح ولد يهوديًا، ورغم أن المسيح بُعث في بني إسرائيل وواحد من أنبيائهم؛ إلا أن اليهود كانت نظرتهم للمسيح والمسيحيين على أنهم متمردون ضد المجتمع اليهودي، وليسوا أفرادا منه، بل رأى اليهود أن الرومان الوثنيين أقرب لهم مودة من المسيحيين، يحادون الله ورسوله، واستغل اليهود موقف الرومان الوثنيين من المسيحيين لصالحهم؛ وألبوا عليهم الخاصة والعامة، وانتشر لقب المسيحيين بوجهين متناقضين؛ وجه إيجابي يحمل الفخر بالنسب إلى المسيح، يحمله قلة مستضعفون، ووجه سلبي يحمله اليهود في صورة الحركة التمردية والنبذ والاقصاء خارج العنصر اليهودي، وأصبح المسيحيون مضطهدون من بني جلدتهم، بل راح بنو جلدتهم يتحدون عليهم مع الرومان الوثنيين؛ وبدا المسيحيون في عين اليهود والرومان الوثنين قلة معارضة تستحق الاضطهاد والتنكيل؛ لمخالفتها الامبراطورية الرومانية الوثنية لا سيما في عهد نيرون وغيره من أباطرة الرومان.
بات المسيحيون خائفون يترقبون؛ فاليهود من ورائهم يطلبونهم؛ والرومان أمامهم يضربون وجهوههم؛ فتفرقوا في البلاد النائية والأرياف على قلة عددهم، وكان الأقرب لهم هي أزقة أوربا التي تعج بالوثنية وتموج بالأساطير اليونانية، ولكي يتعايشوا بين هؤلاء تنازلوا عن كثير من عقائدهم؛ بل أدخلوا فيها الوثنية؛ وجاملوا في دينهم، ومن يجامل في دينه؛ فقد أعلن الحرب على الله، فلما تخلوا عن دينهم؛ تخلى الله عنهم، وضرب عليهم الذلة والمسكنة؛ وباءوا بسخط من الله؛ تتلقفهم البلاد من هنا وهناك، عالقون على أسوار الأمم، ولا أحد يفتح لهم بابا إلا بتنازلات عقائدية، ويشم من أفواههم رائحة الوثنية؛ فلطخوا أجسادهم بالوثنية، ولوثوا عقولهم وعقائدهم بأفكارها على قلة من عقيدتهم وبقية باقية من مبادئهم.
من جانب آخر صادف كل ذلك دخول بعض الوثنيين في المسيحية على حمار الهوى، ومن ركب حمار الهوى هوى، وطرحوا العقيدة على قارعة الطريق؛ لأنهم جهلوها، ومن يجهل الشيء هان عليه، والجهل داء نابه أسود؛ وتمخض الجبل عن فأر؛ فمزجوا بين الوثنية القديمة والمسيحية الجديدة؛ وتزاوج القديم بالحديث؛ فأنجبا دينًا جديدًا مشوهًا؛ شكله مسيحي، وباطنة وثني، وتتابعت الأجيال، وتوالت السنون؛ والوثنية تتجذر وتمتد في عقول هؤلاء وقلوبهم، ونسوا وتناسوا الحقيقة والتاريخ والاضطهادات الرومانية لهم؛ ولم يكلفوا أنفسهم بالبحث عن الجادة والتنقيب عن تاريخهم وعظام آبائهم التي كثير منها سالت عليه دماء أصحابها دفاعا عن المسيحية في وجة الوثنية الرومانية.
ووصل الأمر بهم أن يصبح عيسى إلهًا؛ وتلك من علامات الوثنية تقديس الأشخاص وعبادتها، ولكي يرضوا القلة الباقية منهم على المسيحية الحق؛ مزجوا لهم بين الوثنية والدين من جانب آخر؛ فقالوا إن الله ثالث ثلاثة ـ تعالى الله عما يشركون ـ، وهناك على رأس الطريق يقف اليهود يتهمون مريم بالفاحشة، وأصبح يوسف النجار والدا لعيسى، وإن كنت تعجب من قول اليهود هذا؛ فالعجب العجاب أن تجد من المسيحيين أنفسهم من يستجيب لهذا الإفك، وينزلون يوسف النجار منزلة الوالد لعيسى...، وأمسى القوم كلما جاء لهم أحد بفرية اتبعوه، وضلوا وراء آبائهم المنتفعين المتاجرين بالدين؛ وأصبح الدين ألعوبة بين الأهواء؛ حتى لم يبق في الدين دين، فلا هو مسيحي ولا يهودي ولا حتى وثني، دين خليط ما أنزل الله به من سلطان.
أخرَجوا لهم شجرة الوثنية؛ وغيروا اسمها؛ وألبسوها رداء الرهبان لتكون شجرة الميلاد، وكم من دعوات وثنية تأخذ شرعيتها الكاذبة من لسان الدين والمتدينين، حددوا لهم يوما لميلاد المسيح بعد قرون من مولده؛ فعلوا ما لم يفعله الأولون، بل ادعوا معرفة ما لم يعرفه الحواريون أنفسهم أصحاب عيسى، وجاء آباء لهم غير الآباء، وكذبوا على أنفسهم إرضاء للوثنية؛ ليجنوا من وراء كذبهم دنيا فانية، وكان رزقهم أنهم يكذبون؛ ضل المسيحيون الطريق خلف تجار الدين والكنيسة؛ يوم عصبوا أعينهم، وأوقفوا عقولهم؛ فباتوا في فراش الوثنية؛ وأصبحوا مشركين بعد الإسلام؛ يشترون الدنيا بالدين، وأضحى شعار أوربا للعالقين على أسوارها: " ادخلوها بسلام وثنيين"، ويبقى التاريخ الأسود لا يعيد نفسه إلا في الأرض المظلمة.
 0  0  10.2K