تعلَّمتُ اليابانية فعَرَّفَتْني على اليابان
اثناء قيامي بالتدريس في جامعة البحرين، معاراً من جامعة البترول في الخُُمس الأخير من القرن العشرين، حدثَ أن قرأتُ إعلاناً في الحرم الجامعي عن عرضٍ من مؤسسة نومورا/Nomura التمويلية اليابانية بتقديم دروس لتعليم اللغة لمنسوبي و منسوبات الجامعة من هيأة التدريس و الموظفين؛ فقمتُ بتسجيل اسمي؛ فكانت بداية تعلُّميها. بدأنا في قائمة شملت 14 أستاذا و موظفاً، ضمّت، مثلاً، الزميلة د .منيرة أحمد فخرو، اختصاصية العلوم الاجتماعية. و لكن خلال سيرورة الفصل الدراسي الأول بدأ انسحاب جل المُنضَمين؛ و بقيتُ و د.منيرة و معنا مُدرسٌ فرنسي، حتى قُرب نهاية الفصل.. ثم لم يواصل معنا في الفصل الثاني!
إضافة الى لغتي-الأم، العربية، جاء تعلمي اللغة اليابانية في الترتيب اللغوي (الخامس) بعد أن كان قد بدأ تعلمنا الإنجليزية في الصف الأول من المرحلة الدراسية العامة المتوسطة/الإعدادية بمدرسة الفلاح بمكة المكرمة. ثم كانت دراستي للفرنسية كاللغة (الثالثة)، و ذلك أيّام كانت مناهجنا الدراسية تشتمل عليها في أواخر خمسينات و أوائل ستينات القرن الماضي/العشرين في عهد الملك سعود و الرئيس شارل ديگول، حين كانت الفرنسية تدرَّس في الصفين الأخيرين من القسم الأدبي في المرحلة الثانوية عندنا. أمّا اللغة (الرابعة) التي تعلّمتها فكانت العبرية، وذلك في أواسط ستينات القرن العشرين، اثناء دراستي الجامعية في جامعة تكساس في أوستن، بأمريكا.
لقد كان تعلُّمي اللغة اليابانية بمثابة نافذة تطوَّرت عبر الأيام الى بوّابة تُطل على عالم فسيح و متعمق في المجتمع الياباني التليد و المثير؛ و للاطلاع على تاريخه و ثقافته و حضارته بعامة. و أبدأ هنا فأنوّه بأنّ تعلّم اي لغة لا ينبغي -بحال- الاقتصار فيه على مجرد تعلّم أركان اللغة الأساسية الأربعة، و هي: القراءة، الكتابة، و التحدث و الاستماع؛ و لا على مجرد تراكيب اجروميتها/قواعدها، و قراءة نصوصها و آدابها.. بل ينبغي ان يكون تعلّم كل هذا و ذلك و ذاك -في أي لغة- فرصة ثمينة للوقوف على أكبر قدر ممكن من ثقافة تاريخ و حاضر مكوّنات ذلك البلد. و هذا ما حاولته و سعيت إليه.. اثناء تعلمي اليابانية.
كما و إني لن انحاز للقول بأن تعلّم اليابانية عملُ شديد الصعوبة، فإني أرى أن صعوبة -أو سهولة- تعلّم أي لغة يعتمد على مستوى (دافعية) الدارس في المقام الأول، و على مدى جهده و اجتهاده! فبقدر الجد تكتسب المعالي، و تُقطعُ المراحل، و تُجتازُ الصعاب!
يبدأ تعلم اللغة اليابانية بألِفبائيتها التي تأتي أساساً و بداية في مجموعة من 'الحروف/الأشكال' (Characters) تصل الى 49 حرفاً/ شكلاً. لكن، منذ البداية، تأتي هذه في مجموعتين اثنتين: تُستعمل أولاهما للمفردات المحلِّية/اليابانية، و تسمى الهِيراگانا Hiragana، بينما تأتي الـ49 الأخرى لتُكتب بها المفرداتُ غير اليابانية، و تسمى تلك (حروف) الكاتاكانا/Katakana؛ و المقصود هنا هو فرز الكلمات الأجنبية و توضيحها منذ البداية، و بذا لا يحتاج الدارس للبحث عنها في قاموس اللغة اليابانية، بل سيدرك مباشرة بأنها كلمات خارجية (و ليس البتة كما فهمها البعض بأنها عنصرية!)
لكن، فيما وراء هاتين المجموعتين الأساسيتين من الحروف/الأشكال فإنّ معظم الكتب و المجلات و الصحف تأتي غالباً مكتوبة بحروف/أشكال تسمى كانجي/Kanji، صينية. و هذه يصل تعدادها الى عشرات الآلاف، (و يلزم خريج الثانوية العامة ما لا يقل عن 2000 منها)!
كما إن كلمة الياپان في الياپانية Nihon، أو بالأحرى Nippon، تعني موطن الشمس، (و ساهم في ذلك التصور لكون اليابان تقع في اقصى اليابسة المطلة على المحيط الهادئ). و حكاية 'الشمس' و إجلالها كان عبر العصور لدورها الواضح في الحياة بعامة.. و لدورها العضوي المباشر في الزراعة و أقوات الوجود. فبلغ الانتباه للشمس الى مستوى تقديسها في مختلف الحضارات القديمة، فكانت حضارات مصر تسمي أولادها، مثلاً: رع. مسيس، عبد الشمس (رمسيس)، حيث 'مسيس' تعني عبد او خادم؛ و 'رع' تعني الشمس. و من شدة الإجلال للشمس ان مدح الفرعون العظيم رمسيس2 زوجته الشابة نفرتاري بأنها المرأة التي تشرق الشمس من اجلها! و جاء اليابانيون فأسموا بلدهم بموطن الشمس، و بيتها و محلها!!
و بتعلم اليابانية يكتشف الدارس انواعاً من صفات و سمات البلد و تاريخها؛ فمنها ان الحكم و الإدارة يتسم بالديموگراطيا، و خاصة بناءً على دستور ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في 1945م.. حين قامت أمريكا بقيادة الجنرال دُگلاس مكآرثر باحتلال الياپان و تولي مقاليد حكم البلاد لِستِّ سنوات.. بينما الإمبراطور هيروهيتو Hirohito أخذ يؤدي دوراً رمزياً خالصاً في البلاد.. بعد أن كان يُعتبر شبه.إله Demi-God؛ و لكن كان قد صاحب و عزّز منصبَ الإمبراطور احتساب بداية التقويم السنوي مع بدء حكمه، و ذلك كما كان قبله، و مع من صار بعده.. و ذلك منذ انتهاء حكم المحاربين 'الساموراي' الذي دام لحوالي قرنين و نصف حين اتخذوا من مدينة كيوتو Kyoto عاصمةً لحكمهم؛ ثم مع معاودة الحكم الإمبراطوري في 1868م مع عودة اسرة الإمبراطور ميجي Meiji للحكم.
و في القرن العشرين كان قد تولى الإمبراطور هيروهيتو Hirohito رآسة البلاد من 1926م حتى وفاته في 1989م، سنة سقوط جدار برلين؛ و من ثمّ تولي ابنه أكيهيتو Akehito (الذي كان يكبره اربعُ اخوات، لكنه كان أول مولود ذكر)، و استمر من عام 1989م الى 2020م، حين طلب من البرلمان تنازله لابنه الإمبراطور الحالي ناروهيتو Naruhito. و بذا بدأ تقويم وطني جديد، ثالث، نحن الآن في عامه الثاني. و اذكرُ زيارة ناروهيتو و زوجته ماساكو للمملكة بُعيد توليه منصب ولي.العهد.
و لأن الإمبراطور الحالى لم ينجب ذكراً، فلقد بدأت الدولة لفترة في التفكير في تعديل الدستور لتمكين ابنته من ولاية-العهد، و لكن تم حسم الموضوع مؤخراً بتخصيص ولاية العهد لأخٍ اصغر للإمبراطور، هو الأمير فوميهيتو Fumihito. لكن يبقى الحكم والإدارة بالكامل في يد نواب الشعب في البرلمان.
و تاريخ اليابان كما نعرفه كانت بداياته منذ القرن السادس فقط؛ و تشتمل على ارخبيل اكبرُ جزره هي هونشو Honshu في الوسط؛ و جزيرة هُكّايدو Hokkaido في الشمال، و جزيرة أوكِناوا Okinawa في اقصى الجنوب (و هذه كانت إحدى الممالك القديمة، و لا يزال فيها قرابة 40 ألف جندي أمريكي.. من نتائج الحرب العالمية الثانية). و من المدن الرئيسة: أوساكا في جنوب هونشو؛ و ساپّورو Sapporo في أقصى الشمال (..بقربها 4 جزر لا تزال روسيا تحتلها نتيجة حرب 1905م.)
في جزيرة هونشو Honshu تقع مدينة (نارا Nara) التاريخية و لقد زرتُ معبدها التاريخي تودايجي Todaiji، و به أضخم تمثال مصنوع من خشب متميز.. للإله (بودا)، هو الاكبر من نوعه. في تلك الزيارة، شاهدتُ قرب المعبد عدداً من الوعول و الغزلان يرعون في سكينة و سلام.. في حديقة واسعة مكشوفة تطل على الشارع العام. و حدث أن همَى المطر في رذاذ، فالتجأتُ الى مقهى قريب و معي فتاتان ياپانيتان جامعيتان كانتا قد صاحبتاني بالقطار من حي شيبويا/ Shibuya في طوكيو، (و كنت قد قابلتهما في العام السابق في سلطنة بروناي).
و نتيجة تعلمي اليابانية تعرفتُ على بعض المأثورات الأدبية مثل مَلحمة گِنجي/ Genji؛ و على الموسيقى، و المسرح التراثي المتمثل بالمسرح الإنشادي 'الكابوكي Kabuki؛ و مسرح العرائس، و مسرح القِناعات Noh؛ و كذلك عن خلفية الكرتون ضمن مختلف فنون الأنيميه Animation.
و من المناطق اليابانية المميزة التي زرتها في اليابان كانت مدينة إسّيه Ise حيث مصنع و متحف اللؤلؤ الياباني ماكيموتو Makimoto الذي تم ارتياده هناك في 1893م، و ساهم للأسف في اضمحلال لؤلؤ الخليج العربي و البحرين بخاصة.
و غني عن الإفاضة في مواضيع و مجالات الصناعة النابغة و عالم التقنيات العالية، فمن منا لا يعرف عن اصناف السيارات، مثلاً، و انتشارها في كل مدينة و قرية و زقاق و زنقة، مثل: تويوتا (=قرية تويو)؛ و مِتسوبيشي (=الماسات الثلاثة)؛ نِسّان (=صناعات الياپان)؛ او الشركات العملاقة، مثل ميتسوي (=الآبار الثلاثة).
و مما ابدع فيه اليابانيون كان أيضا في مجال مانگاجين/Mangajin (و اللفظة من magazine) و هي التي بدأت في عالم تسالي الكرتون و الكاريكاتور، لكن سرعان ما استغل ذلك في إعداد العديد من المؤلفات في مجالات التاريخ و الجغرافيا و في الاقتصاد و الإدارة، بل و في مختلف العلوم و التقنيات، مما يساعد طلاب الثانوية و الجامعات على التهام و استيعاب محتوى العديد من المناهج الدراسية بطريقة في غاية التشويق و المتعة و الإثارة. (و أثناء ركوبي القطارات و المترو شاهدتُ عدداً من الشباب و الشابات ممسكين بمجلدات ورقية ضخمة، يقرأون و يذاكرون و هم وقوف في مركبات القطارات المزدحمة.. مستفيدين من وقت الرحلة.. و غير منقطعين عن متعة القراءة!)
و إبّان تعلمي اليابانية اكتشفتُ احتفال اليابانيين بعدد من المناسبات المتصلة بالفصول الطبيعية طيلة العام؛ و تأتي الفصول عندهم فصولاً أربعة فعلاً و بالوفا و التمام، فتحل احتفالاتهم الشعبية الفُلكلورية Matsuri، في الربيع، و في الصيف، و كذلك في بدايات الخريف Akimatsuri، حين يُعبّّرون عن فرحتهم بالحصاد و بجني الثمرات! و فيها يرتدون ملابساً تقليدية/تاريخية، الكيمونو Kimono. و خلالها يتناولون اصنافاً من الأطعمة و الأشربة بما يشمل الدجاج المشوي Yakitori على طريقةٍ بين الشيش.طاووق التركي و الساتيه الإندونيسي؛ و التيرياكي Teriyaki (شوي قطع الدجاج او اللحم.. مع بعض الخضروات الطازجة و عليها بعض صلصة الصويا)؛ أو التِّپانياكي Teppanyaki الذي يشبه عندنا شي اللحم على فرن حجَر السّلات Slate، الذي كان جَدي لأبي ماهراً في اعداده لنا في مكة.
و بالطبع هناك أنواع من السوشي Sushi: (كراتٌ و بيضاوياتٌ من الأرز المطهي بالبخار، عليها قِطع خفيفة من أصناف السمك و البحريات) و يُغمس السوشي في قليل من خل الصويا بعد إضافة شذرات من مخلل حاد الطعم Wasabi، مُحضّر من الفجل؛ ثم قطع صغيرة من الزنجبيل المخلل. (و هنا اكتشفتُ انّ بالإضافة اللى إمكان الياپانيين تناول السوشي باستعمال عيدان الـChopsticks المعروفة، إلاّ أني علمتُ أنه -في حالة السوشي، و بخاصة الملفوف منه بورق اعشاب/طحالب البحر/Wakame، يمكن، كحالة خاصة، المسك بقطعاته أثناء أكله.. بأطراف الأصابع!
(كما و يلزم أن انوِّه هنا و أوضِّح لشعبنا العربي بخاصة لإبعادهم عن الخوف من كون شرائح السمك و البحريات نيئة.. و اؤكد على حرص الياپانيين الحاذق في شدة و دقة اختيارهم للحوم بعامة و الأسماك بخاصة.. و على العناية القصوى في حفظها و في طازجيتها.. فضلاً عن دور صلصة الصويا و معها مخللات فجل الواسابي و الزنجبيل!)
(نــَتــّو Natto) كفَطور ياپاني!: كما وجدتُ أثناء دراستي الياپانية، و خلال زيارتيَّ الاثنتين للياپان، أنّ صار ضمنَ مأكولات وجبة الفطور في طوكيو طبق يتمُّ إعداده أساساً من فول.الصويا المُخمَّر Fermented soybeans؛ و يمكن استخدام انواع اخرى من الحبوب المشابهة عالية الپروتين.. مثل الحمّص/البليلة و انواع أخرى من الفول.. فيتم إعدادُه وِفقَ خطواتٍ محددة.. مع إضافة قسطٍ من الخضار، تعلوها بيضة نصف مُطجَّنة و يتم مزجها جميعاً، و عليها رشَّة من خل الصويا.
كما و علمتُ قبل ربع قرن أن هناك ما لايقل عن 500 جمعية في اليابان ترعى هذه الوجبة الصباحية، و تحتفل بها و تروّج لها و تتفنن في تنويعها؛ و كانت المفاجأة لي و لمن قابلتُهم هناك حين تبيّن ان وجبة هذا الفطور تسمى هناك بإسم يطابق إسمي العائلي: (نـَتـّو/NATTO)!
إضافة الى لغتي-الأم، العربية، جاء تعلمي اللغة اليابانية في الترتيب اللغوي (الخامس) بعد أن كان قد بدأ تعلمنا الإنجليزية في الصف الأول من المرحلة الدراسية العامة المتوسطة/الإعدادية بمدرسة الفلاح بمكة المكرمة. ثم كانت دراستي للفرنسية كاللغة (الثالثة)، و ذلك أيّام كانت مناهجنا الدراسية تشتمل عليها في أواخر خمسينات و أوائل ستينات القرن الماضي/العشرين في عهد الملك سعود و الرئيس شارل ديگول، حين كانت الفرنسية تدرَّس في الصفين الأخيرين من القسم الأدبي في المرحلة الثانوية عندنا. أمّا اللغة (الرابعة) التي تعلّمتها فكانت العبرية، وذلك في أواسط ستينات القرن العشرين، اثناء دراستي الجامعية في جامعة تكساس في أوستن، بأمريكا.
لقد كان تعلُّمي اللغة اليابانية بمثابة نافذة تطوَّرت عبر الأيام الى بوّابة تُطل على عالم فسيح و متعمق في المجتمع الياباني التليد و المثير؛ و للاطلاع على تاريخه و ثقافته و حضارته بعامة. و أبدأ هنا فأنوّه بأنّ تعلّم اي لغة لا ينبغي -بحال- الاقتصار فيه على مجرد تعلّم أركان اللغة الأساسية الأربعة، و هي: القراءة، الكتابة، و التحدث و الاستماع؛ و لا على مجرد تراكيب اجروميتها/قواعدها، و قراءة نصوصها و آدابها.. بل ينبغي ان يكون تعلّم كل هذا و ذلك و ذاك -في أي لغة- فرصة ثمينة للوقوف على أكبر قدر ممكن من ثقافة تاريخ و حاضر مكوّنات ذلك البلد. و هذا ما حاولته و سعيت إليه.. اثناء تعلمي اليابانية.
كما و إني لن انحاز للقول بأن تعلّم اليابانية عملُ شديد الصعوبة، فإني أرى أن صعوبة -أو سهولة- تعلّم أي لغة يعتمد على مستوى (دافعية) الدارس في المقام الأول، و على مدى جهده و اجتهاده! فبقدر الجد تكتسب المعالي، و تُقطعُ المراحل، و تُجتازُ الصعاب!
يبدأ تعلم اللغة اليابانية بألِفبائيتها التي تأتي أساساً و بداية في مجموعة من 'الحروف/الأشكال' (Characters) تصل الى 49 حرفاً/ شكلاً. لكن، منذ البداية، تأتي هذه في مجموعتين اثنتين: تُستعمل أولاهما للمفردات المحلِّية/اليابانية، و تسمى الهِيراگانا Hiragana، بينما تأتي الـ49 الأخرى لتُكتب بها المفرداتُ غير اليابانية، و تسمى تلك (حروف) الكاتاكانا/Katakana؛ و المقصود هنا هو فرز الكلمات الأجنبية و توضيحها منذ البداية، و بذا لا يحتاج الدارس للبحث عنها في قاموس اللغة اليابانية، بل سيدرك مباشرة بأنها كلمات خارجية (و ليس البتة كما فهمها البعض بأنها عنصرية!)
لكن، فيما وراء هاتين المجموعتين الأساسيتين من الحروف/الأشكال فإنّ معظم الكتب و المجلات و الصحف تأتي غالباً مكتوبة بحروف/أشكال تسمى كانجي/Kanji، صينية. و هذه يصل تعدادها الى عشرات الآلاف، (و يلزم خريج الثانوية العامة ما لا يقل عن 2000 منها)!
كما إن كلمة الياپان في الياپانية Nihon، أو بالأحرى Nippon، تعني موطن الشمس، (و ساهم في ذلك التصور لكون اليابان تقع في اقصى اليابسة المطلة على المحيط الهادئ). و حكاية 'الشمس' و إجلالها كان عبر العصور لدورها الواضح في الحياة بعامة.. و لدورها العضوي المباشر في الزراعة و أقوات الوجود. فبلغ الانتباه للشمس الى مستوى تقديسها في مختلف الحضارات القديمة، فكانت حضارات مصر تسمي أولادها، مثلاً: رع. مسيس، عبد الشمس (رمسيس)، حيث 'مسيس' تعني عبد او خادم؛ و 'رع' تعني الشمس. و من شدة الإجلال للشمس ان مدح الفرعون العظيم رمسيس2 زوجته الشابة نفرتاري بأنها المرأة التي تشرق الشمس من اجلها! و جاء اليابانيون فأسموا بلدهم بموطن الشمس، و بيتها و محلها!!
و بتعلم اليابانية يكتشف الدارس انواعاً من صفات و سمات البلد و تاريخها؛ فمنها ان الحكم و الإدارة يتسم بالديموگراطيا، و خاصة بناءً على دستور ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في 1945م.. حين قامت أمريكا بقيادة الجنرال دُگلاس مكآرثر باحتلال الياپان و تولي مقاليد حكم البلاد لِستِّ سنوات.. بينما الإمبراطور هيروهيتو Hirohito أخذ يؤدي دوراً رمزياً خالصاً في البلاد.. بعد أن كان يُعتبر شبه.إله Demi-God؛ و لكن كان قد صاحب و عزّز منصبَ الإمبراطور احتساب بداية التقويم السنوي مع بدء حكمه، و ذلك كما كان قبله، و مع من صار بعده.. و ذلك منذ انتهاء حكم المحاربين 'الساموراي' الذي دام لحوالي قرنين و نصف حين اتخذوا من مدينة كيوتو Kyoto عاصمةً لحكمهم؛ ثم مع معاودة الحكم الإمبراطوري في 1868م مع عودة اسرة الإمبراطور ميجي Meiji للحكم.
و في القرن العشرين كان قد تولى الإمبراطور هيروهيتو Hirohito رآسة البلاد من 1926م حتى وفاته في 1989م، سنة سقوط جدار برلين؛ و من ثمّ تولي ابنه أكيهيتو Akehito (الذي كان يكبره اربعُ اخوات، لكنه كان أول مولود ذكر)، و استمر من عام 1989م الى 2020م، حين طلب من البرلمان تنازله لابنه الإمبراطور الحالي ناروهيتو Naruhito. و بذا بدأ تقويم وطني جديد، ثالث، نحن الآن في عامه الثاني. و اذكرُ زيارة ناروهيتو و زوجته ماساكو للمملكة بُعيد توليه منصب ولي.العهد.
و لأن الإمبراطور الحالى لم ينجب ذكراً، فلقد بدأت الدولة لفترة في التفكير في تعديل الدستور لتمكين ابنته من ولاية-العهد، و لكن تم حسم الموضوع مؤخراً بتخصيص ولاية العهد لأخٍ اصغر للإمبراطور، هو الأمير فوميهيتو Fumihito. لكن يبقى الحكم والإدارة بالكامل في يد نواب الشعب في البرلمان.
و تاريخ اليابان كما نعرفه كانت بداياته منذ القرن السادس فقط؛ و تشتمل على ارخبيل اكبرُ جزره هي هونشو Honshu في الوسط؛ و جزيرة هُكّايدو Hokkaido في الشمال، و جزيرة أوكِناوا Okinawa في اقصى الجنوب (و هذه كانت إحدى الممالك القديمة، و لا يزال فيها قرابة 40 ألف جندي أمريكي.. من نتائج الحرب العالمية الثانية). و من المدن الرئيسة: أوساكا في جنوب هونشو؛ و ساپّورو Sapporo في أقصى الشمال (..بقربها 4 جزر لا تزال روسيا تحتلها نتيجة حرب 1905م.)
في جزيرة هونشو Honshu تقع مدينة (نارا Nara) التاريخية و لقد زرتُ معبدها التاريخي تودايجي Todaiji، و به أضخم تمثال مصنوع من خشب متميز.. للإله (بودا)، هو الاكبر من نوعه. في تلك الزيارة، شاهدتُ قرب المعبد عدداً من الوعول و الغزلان يرعون في سكينة و سلام.. في حديقة واسعة مكشوفة تطل على الشارع العام. و حدث أن همَى المطر في رذاذ، فالتجأتُ الى مقهى قريب و معي فتاتان ياپانيتان جامعيتان كانتا قد صاحبتاني بالقطار من حي شيبويا/ Shibuya في طوكيو، (و كنت قد قابلتهما في العام السابق في سلطنة بروناي).
و نتيجة تعلمي اليابانية تعرفتُ على بعض المأثورات الأدبية مثل مَلحمة گِنجي/ Genji؛ و على الموسيقى، و المسرح التراثي المتمثل بالمسرح الإنشادي 'الكابوكي Kabuki؛ و مسرح العرائس، و مسرح القِناعات Noh؛ و كذلك عن خلفية الكرتون ضمن مختلف فنون الأنيميه Animation.
و من المناطق اليابانية المميزة التي زرتها في اليابان كانت مدينة إسّيه Ise حيث مصنع و متحف اللؤلؤ الياباني ماكيموتو Makimoto الذي تم ارتياده هناك في 1893م، و ساهم للأسف في اضمحلال لؤلؤ الخليج العربي و البحرين بخاصة.
و غني عن الإفاضة في مواضيع و مجالات الصناعة النابغة و عالم التقنيات العالية، فمن منا لا يعرف عن اصناف السيارات، مثلاً، و انتشارها في كل مدينة و قرية و زقاق و زنقة، مثل: تويوتا (=قرية تويو)؛ و مِتسوبيشي (=الماسات الثلاثة)؛ نِسّان (=صناعات الياپان)؛ او الشركات العملاقة، مثل ميتسوي (=الآبار الثلاثة).
و مما ابدع فيه اليابانيون كان أيضا في مجال مانگاجين/Mangajin (و اللفظة من magazine) و هي التي بدأت في عالم تسالي الكرتون و الكاريكاتور، لكن سرعان ما استغل ذلك في إعداد العديد من المؤلفات في مجالات التاريخ و الجغرافيا و في الاقتصاد و الإدارة، بل و في مختلف العلوم و التقنيات، مما يساعد طلاب الثانوية و الجامعات على التهام و استيعاب محتوى العديد من المناهج الدراسية بطريقة في غاية التشويق و المتعة و الإثارة. (و أثناء ركوبي القطارات و المترو شاهدتُ عدداً من الشباب و الشابات ممسكين بمجلدات ورقية ضخمة، يقرأون و يذاكرون و هم وقوف في مركبات القطارات المزدحمة.. مستفيدين من وقت الرحلة.. و غير منقطعين عن متعة القراءة!)
و إبّان تعلمي اليابانية اكتشفتُ احتفال اليابانيين بعدد من المناسبات المتصلة بالفصول الطبيعية طيلة العام؛ و تأتي الفصول عندهم فصولاً أربعة فعلاً و بالوفا و التمام، فتحل احتفالاتهم الشعبية الفُلكلورية Matsuri، في الربيع، و في الصيف، و كذلك في بدايات الخريف Akimatsuri، حين يُعبّّرون عن فرحتهم بالحصاد و بجني الثمرات! و فيها يرتدون ملابساً تقليدية/تاريخية، الكيمونو Kimono. و خلالها يتناولون اصنافاً من الأطعمة و الأشربة بما يشمل الدجاج المشوي Yakitori على طريقةٍ بين الشيش.طاووق التركي و الساتيه الإندونيسي؛ و التيرياكي Teriyaki (شوي قطع الدجاج او اللحم.. مع بعض الخضروات الطازجة و عليها بعض صلصة الصويا)؛ أو التِّپانياكي Teppanyaki الذي يشبه عندنا شي اللحم على فرن حجَر السّلات Slate، الذي كان جَدي لأبي ماهراً في اعداده لنا في مكة.
و بالطبع هناك أنواع من السوشي Sushi: (كراتٌ و بيضاوياتٌ من الأرز المطهي بالبخار، عليها قِطع خفيفة من أصناف السمك و البحريات) و يُغمس السوشي في قليل من خل الصويا بعد إضافة شذرات من مخلل حاد الطعم Wasabi، مُحضّر من الفجل؛ ثم قطع صغيرة من الزنجبيل المخلل. (و هنا اكتشفتُ انّ بالإضافة اللى إمكان الياپانيين تناول السوشي باستعمال عيدان الـChopsticks المعروفة، إلاّ أني علمتُ أنه -في حالة السوشي، و بخاصة الملفوف منه بورق اعشاب/طحالب البحر/Wakame، يمكن، كحالة خاصة، المسك بقطعاته أثناء أكله.. بأطراف الأصابع!
(كما و يلزم أن انوِّه هنا و أوضِّح لشعبنا العربي بخاصة لإبعادهم عن الخوف من كون شرائح السمك و البحريات نيئة.. و اؤكد على حرص الياپانيين الحاذق في شدة و دقة اختيارهم للحوم بعامة و الأسماك بخاصة.. و على العناية القصوى في حفظها و في طازجيتها.. فضلاً عن دور صلصة الصويا و معها مخللات فجل الواسابي و الزنجبيل!)
(نــَتــّو Natto) كفَطور ياپاني!: كما وجدتُ أثناء دراستي الياپانية، و خلال زيارتيَّ الاثنتين للياپان، أنّ صار ضمنَ مأكولات وجبة الفطور في طوكيو طبق يتمُّ إعداده أساساً من فول.الصويا المُخمَّر Fermented soybeans؛ و يمكن استخدام انواع اخرى من الحبوب المشابهة عالية الپروتين.. مثل الحمّص/البليلة و انواع أخرى من الفول.. فيتم إعدادُه وِفقَ خطواتٍ محددة.. مع إضافة قسطٍ من الخضار، تعلوها بيضة نصف مُطجَّنة و يتم مزجها جميعاً، و عليها رشَّة من خل الصويا.
كما و علمتُ قبل ربع قرن أن هناك ما لايقل عن 500 جمعية في اليابان ترعى هذه الوجبة الصباحية، و تحتفل بها و تروّج لها و تتفنن في تنويعها؛ و كانت المفاجأة لي و لمن قابلتُهم هناك حين تبيّن ان وجبة هذا الفطور تسمى هناك بإسم يطابق إسمي العائلي: (نـَتـّو/NATTO)!