رهن الاعتقال !!!!
اعتقال على وزن "افتعال" تدور في معاجم اللغة حول الحبس والتقييد والمنع، ويشتهر استعمالها سياسياً بمعنى القبض على شخص وحبسه بدون محاكمة لدواع تراها السلطة السياسية.
والمتأمل يرى أنه بمجرد إطلاق هذا المصطلح ينصرف الذهن دائماً إلى المعنى والاستعمال السياسي لها، وعليه فإن من هو خارج الاعتقال السياسي يرى نفسه يتمتع بالحرية فهو ليس بمعتقل.
الحقيقة أنني تأملت حياتنا وتصرفاتنا وسلوكنا وممارساتنا فلاحظت أنها عبارة عن اعتقال في سجن العولمة، لكن الفارق أن المعتقل السياسي يدرك أنه معتقل في حين أن ممارساتنا نحن على النقيض حيث يتم خداع العقل وبرمجته أنه حر في تفكيره وعمله وممارسته في حين أنه رهن الاعتقال.
هل نحن حقاً نأكل ما نشتهي؟ ونلبس ما نحب؟ ونركب السيارات التي تروق لنا؟ ونشاهد عبر فضاءات التقنية الحديثة الأشياء التي نرغب بها؟ ونتكلم ونتناقش فيما نريد؟
أتصور إن الإجابة نعم ولا ؛ فالمنظومة الحضارية المعاصرة تضع الإنسان في دائرة ضيقة وتجعله حبيساً في نمط معين لا يمكن له أن يتجاوزه، وبالتالي تفرض عليه نمطاً معينا لا شعورياً يمارسه ويخضع له رغم أنفه، لكن العجيب الغريب أن يظن الإنسان أنه ليس بمعتقل.
وليس كاتب المقال بمنأى عن ذلك فعندما كنت في أحد المستشفيات وأنا أسير في أحد الطرقات لاحظت نفسي أنني أسير ووجهي ينظر في الجوال الذي في يدي فرفعت رأسي لأنظر حولي: فرأيت الموظفة الجالسة بالاستقبال تفعل مثلي تماماً إنها تتصفح الجوال، والجالسون على المقاعد في الاستقبال يفعلون مثلي، والمريض الذي ينتظر دوره أمام العيادة يفعل مثلي، والطبيب المعالج بالداخل يتحاور مع أحد المرضى ويفعل مثلي – وقد رمقته خلسة- والصيدلي بالصيدلية يفعل مثلي، والجالسون أمام الصيدلية يفعلون مثلي، وعامل النظافة بيده أدوات النظافة وبيده الأخرى يتصفح الجوال، والممرضة تقيس الحرارة وتتصفح الجوال، وحارس الأمن يتصفح الجوال، والموظف المختص لقياس الحرارة لمراجعي المستشفى لاحترازات كورونا يتصفح الجوال.
لست مبالغاً في هذه المشاهد، فعندما جلست في أحد المقاعد لأتأمل هذا الأمر؛ التفت على يميني فإذا بطفل في العاشرة من عمره تقريباً ينتظر والديه يبذل مجهوداً عنيفاً ويتمايل يمنة ويسرة مع لعبة بالجوال الذي في يده عندها قلت في نفسي:
إننا جميعاً رهن الاعتقال للتقنية التي أسرتنا على اختلاف المهن والدرجات العلمية، وعلى اختلاف أعمارنا، وأكاد أجزم أن الغالبية منا كان أسيراً لما يشاهد بمعنى أنه لم يتوجه مباشرة لأمر معين بإرادته واختياره ليشاهده، بل يتصفح ليرى المادة المفروضة عليه أن يشاهدها ويتابعها.
هل نحن نأكل ما نحب إن وجود ما يسمى بقائمة الطعام أكبر دليل على عملية الاعتقال فالطبيعي أن تأكل ما تحب لكنك عندما تذهب لمطعم يعطيك ما لديه لتختار منه فتظن هذا الاختيار هو كامل الحرية، ولا تدري أنه فرض عليك أنواعا معينة، وأنت فقط اخترت من الموجود؛ لذا أحرص شخصياً أن أطلب ما أريد قبل النظر لقائمة الطعام حتى لا أكون حبيساً وأسيراً لها.
وإن فكرة الاختيار من متعدد التي انتشرت في كل حياتنا وحاصرتنا في كل مكان تؤكد على عملية اختزال العقل وتقييده واعتقاله وللأسف تسربت إلى عملية التعليم فأصبحت الإجابة على الأسئلة اختيار من متعدد، وهذا أكبر قاتل لإبداع الطلاب، وحبس له عن السباحة في أفق المعرفة، ولا أتصور أن العقل المحبوس في دائرة الاختيار من متعدد سيتمكن أن يبتكر ويبدع ويخترع
وخطوط الموضة السنوية هي الموجهة للرجل والمرأة، وقد نترك ملابس محببة لنا، وجديدة ربما ارتديناها مرة أو اثنتين؛ لكن نظراً لأننا رهن اعتقال الموضة، وفوران العصر بكل جديد، نضطر أن نلبس ونستعمل ما يفرضه علينا العصر لا ما نحبه نحن. وينطبق هذا على الأحذية والشنط، وللأسف أننا جميعاً نساهم في عملية الاعتقال عندما نزدري من لا يساير الموضة، أو ننتقده، أو نقلل من شأنه وحتى عملية الإنفاق على المشتريات واقعة تحت ضغط الاعتقال.
لا أمتلك جوال أيفون ولا أرى بأساً أن يستمر معي جوالي عامين أو ثلاثة طالما أنه يقوم بالمهام التي أريدها أنا، ويلبي احتياجاتي أنا، وعندما قالت لي ابنتي: لماذا لا تشتري جوال أيفون الجديد وأنت الأستاذ الجامعي ولن يؤثر على ميزانيتك؟
قلت لها: ابنتي: إنني لا أشعر بالحرمان أو النقص لأنني لا أمتلكه، وهذا مبرر كاف لعدم شرائه، ولا أحب الاعتقال.
إنني أريد من هذا المقال أن تكون لنا وقفة مع أنفسنا وقفة تحرير للعقل، أن نتعامل بروية مع المنجزات الحضارية، وأن لا نتحول إلى سلع وأشياء، أن تتدبر قليلا في سلوكنا ونغير من عاداتنا وممارساتنا لتكون نحو الجادة والصواب .
وفي هداية نصوص الوحي ما يجعل للمسلم سمته وذاتيته الحضارية المتميزة نحتاج إلى عدم التماهي والوقوع في شرك الاعتقال لعقولنا وتصرفاتنا وأعمالنا.
من عظمة الإسلام أنه جعل اللباس له مواصفات وليس شكلا معينا وفي الطعام أباح الطيبات وحرم أشياء معدودة محددة وكذا في المشروبات ، وجعلنا مسؤولين عن أوقاتنا وعن أعمالنا وعن أموالنا مسؤولون عن طريقة إنفاقها وتعاطيها وتداولها حثنا على الترشيد وليس التسلع والاستهلاك المجنون المفرط. وربط كرامة الإنسان بتقواه وعبادته لا بمظهره وشكله.
استحثنا الوحي على المحافظة على أوقاتنا وفراغنا؛ فالمسلم له رسالة حضارية وقيمة مجتمعية يبني ويبدع ويؤسس لحياته ويساهم في عمارة الكون وليس إنسانا تافها يقضي الساعات الطوال في الانشغال بتوافه الأمور، معتقلاً وأسيراً في فكره وثقافته، وسلوكه وعمله.
إن المسلم الحق يجب أن يتخلص من الحبس والقيد المطوق بعنقه يأن يترك أحضان العولمة وتأثيراتها التي تسكر العقل وتغيبه فتصل به إلى حد الإسكار، إنه من الواجب أن يكون يقظاً واعياً لما يدور حوله، منتبهاً متحرراً من الأغلال التي تطوقه، والقيود التي تمزقه، والضغوطات التي تنازعه. والحرية الحقيقية في التمسك بجوهر الدين والاعتزاز بالإسلام، وأن يبصر المسلم موضع قدمه، ويتأمل حاضره وغده ويأخذ العبرة والدرس من ماضيه .
والله من وراء القصد
أستاذ الثقافة والفكر الإسلامي