أين أبي؟!
أين أبي؟ سؤال عريض وضعته الأستاذة جهاد الجفري عنوانا لروايتها الرائعة والتي اسعدتني بإهدائي نسخة منها، فكانت رفيق دربي في سفري لم اتركها ولن تتركني ذكرياتها فبمجرد ملامسة صفحاتها بدأت الغوص فيها بعمق وعشت مع فصول أحزانها وأحزان وطن منكوب ازدادت نكبته منذ نصف قرن على وجه التحديد ومازالت النكبات والاحزان نعيشها بحذافيرها في زمننا المعاصر والتي تتكرر فيه تلك المشاهد والاحزان التي عاشتها جهاد واسرتها في زمن إرهاب الدولة ان سميت دولة مجازاً وإلاّ فهي عصابة سُلِّمَت اليها مقاليد الحكم فعبثت بالبلاد والعباد وقامت بدورها الوظيفي على أسوأ حال حسب ما رسمه لهم من سلمهم إياه،
(أين أبي؟) رواية تستحق القراءة وبالذات أبناء هذا الجيل الجديد الذي خُدِعَ من قبل كثير من الأفاكين وناشري الكذب وتزوير الحقائق وهم يحلمون بفردوس الجنوب المفقود بزعمهم أو بظنونهم ، ولم يعرفوا شيئا أو يعيشوا فصول تلك المآسي والأحزان التي لم تعاني منها جهاد واسرتها فحسب بل آلاف الأسر في كافة محافظات الجنوب ولم تستثنى منها محافظة أو مديرية فجهاد هي من دوّنت تلك المعاناة الخاصة بهم في ابداع روائي لا يجيده الا كبار الادباء والكتاب، فما بالنا بآلاف الأسر عاشوا تلك المعاناة وأكثر منها قسوة وأشدُّ بلاءً لم يكتب عنهم أحد وطُويَتْ مآسيهم في أرشيف النسيان،
فجهاد الطفلة الصغيرة التي ترعرعت في خضم المأساة وبدأت مداركها تتفتح فكان سؤالها الطبيعي هو (أين أبي؟) فأبوها اختطفه زوّار الفجر كما اختطفوا غيره الكثير وزجوا بهم في غياهب السجون والمعتقلات السرية وأخضعوهم للتعذيب والتنكيل بكافة انواعه بحسب الدورات التي تلقوها في المخابرات الأجنبية أو في مدرسة سيئ الذكر صلاح نصر وحمزة البسيوني، وبعد ذلك تغييبهم عن الحياة بالقتل بكافة صوره الموحشة سحلاً بالسيارات في الشوارع أو تهشيم الرأس بالفأس أو دفناً وهم أحياء أو القائهم من شواهق الجبال أو من أسطح العمائر الكبيرة أو رميهم في آبار عميقة ناهيك عمّن تم رميهم في أعماق البحار ليصبحوا طعاما للحيتان الكبيرة أو من أفقدوهم عقولهم وأخرجوهم مجانين في الطرقات،
منظر الطفلة جهاد وهي ترافق أمها امام بوابات السجون تلفحهن حرارة الشمس المحرقة يجلسن كغيرهن من العشرات من النساء الفاقدات آبائهن أو ابنائهن وأقربائهن لعلّ وعسى تنزل شفقة من ضابط وهو يشاهدهن بهذا الحال كل يوم فيعطيهن أملا عن المختطف المفقود أين هو؟ وأمّا لو تكرّم وسمح لأحداهن بالزيارة فتلك نعمة عظيمة ومرتبة علياء راقية لم يكن لهم شرف الوصول اليها وهم قد أصبحوا جلاوزة جلاّدين ووحوشاً مرعبةً في شكلٍ آدمي، وفي انتظار بصيص أمل يظهر أحد الجنود الأبالسة ويطلب من الجميع المغادرة ويقول لا يوجد أحداً عندنا ممن تبحثون عنهم،
هذا حصل في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي في دولة كانت تسمى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية،
وهذه المناظر تتكرر مجددا منذ خمس سنوات بعد أن حُرِّرت عدن من المليشيات الحوثية على يد أبنائها وبعد ان سُلمت مرة أخرى للانتهازيين الجيل الثاني لجيل أسلافهم فتكررت مشاهد الاغتيالات والخطف والسجون والمعتقلات السرية وأبشع أنواع التعذيب المتطورة.
وتكرر مشهد الأمهات والزوجات والأطفال يقفون طوال اليوم امام السجون والمعتقلات الأمهات يبحثن عن ابنائهن والزوجات عن ازواجهن والأطفال عن آبائهم،
منظر جهاد الصغيرة وهي تحاول تتقي حرارة الشمس بشيذر أمها يكرره أطفال التربوي زكريا قاسم وغيره من المعتقلين والمخفيين قسريا أما من قد تمت تصفيتهم فذويهم قد رفعوا مظلمتهم لقاضي السماء
وقطعا سيكون الجزاء العادل في الدنيا قبل الآخرة كما حصل لمجرمين كثير،
احداث رواية (أين ابي؟) فصولها كثيرة ومتعددة وتحتاج لوقفات ومقالات أخرى في قادم الأيام إن قُدِّرَ لنا ذلك فتحيةٌ للأستاذة جهاد التي شقّت طريقها رغم معاناة فقدان الأب والرجاء من المولى عزّوجل اللقاء به في مقعد صدق عند مليك مقتدر.