الأدب بين المبنى والمعنى
تعتبر قضايا النّقد العربي ، قديماً و حديثاً ، من أهمّ العناوين الّتي تشكّل استمراريّة في قدرتها على تبوّؤ مقدّمة العناوين البحثيّة ، ألا و هي :الأدب بين المبنى والمعنى أو الأدب بين اللّفظ والمعنى أو بمعنى آخر الأدب بين الفكر والجماليّة.
و بموضوعيّة ، إنّ هذه القضيّة ليست حديثة وليست حكراً على الدّراسات النّقديّة العربيّة إذ تعود بعض من أصولها للفكر الغربي لا سيما اليوناني .فهي قضيّة ذات طابع حضاري إنساني لغوي . أمّا أوائل أصولها فتنبثق من بعض الفِرق الكلاميّة كالأشاعرة، والمعتزلة والجهميّة....
في حين أنّ النّقاد وعلماء البلاغة لم يتّفقوا على رأي واحد بل تضاربت أفكارهم وتقاطعت آراءهم ، ولكن لم يصلوا للحدة التي كانت مع الفرق الكلامية .
فمنهم من رأى أنّ أهمّ معايير نجاح أيّ عمل أدبي هو قدرته على إيصال المعنى ، ومنهم من ردّ هذه النّظريّة معتبراً أن لا معنى قد يصل لأيّ عمل أدبي دون استخدام الأسلوب والرّكائز اللّفظيّة المناسبة للنّصّ . وبين هذين الرأيين ظهر رأي ثالث رأى أنّ النّصّ الأدبي لا ينجح إلّا بالركيزتين "اللّفظ والمعنى".
و بالعودة لأفلاطون الّذي كان ممّن يقدّمون الوعي والمثاليّة على المادة " و ينطلق في هذا من إيمانه واستناده إلى الفلسفة المثاليّة، الّتي ترى أنّ الوعي أسبق في الوجود من المادة " (شكري عزيز الماضي، في نظريّة الأدب، ص18.)
فأفلاطون يرى أنّ الأسبقيّة للمعنى و للأفكار ، أمّا ما دون ذلك لا يشكّل أهميّة . فاللّفظ هو صورة للمعنى ومرآة له.
أمّا أرسطو ، وهو تلميذ أفلاطون ، فكان يرى أنّ الفنّ للفنّ وجماليّته هي بحدّ ذاتها هدف منشود معارضاً أسبقيّة المعنى ولا حتّى اللّفظ ، بل وافق بينهما معتبراً أنّ الشّعر والفنّ بمذاهبه يكمل ما في الطّبيعة من نقص وثغرات .
و بالعودة للفكر العربي ، نرى الاختلاف في وجهات النّظر وإن غاب الكثير واندثر من الشّعر الجاهلي . فمن الطّبيعي أن يندثر نثره وهو الأقلّ سهولة للحفظ والتّدوين . لكنّ الأبرز كان رأي النّاقد النّبغة ،كما روت أحداث سوق عكاظ ،حين فاضل في ترتيب شعراء الجاهليّة الثّلاث تفوّق فيه الأعشى وتبعته الخنساء فكان الحسّان ثالثهم . فسأله الآخر عن سبب هذا الحكم فردّ النّابغة : قلتَ " الجفنات، وهي جمع قلّة ، لو قلت: الجفان، لكان أفضل، وقلت: يلمعن، واللّمعان يختفي ويظهر، ولو قلت: يشرفن لكان أفضل وقلت: بالضّحى وكلّ شيء يلمع في الضّحى، ولو قلت: بالدّجى لكان أفضل، وقلت: يقطرن، ولو قلت: يجرين لكان أفضل." وبذلك نرى توجّه نقّاد الجاهليّة ، وفي مقدّمتهم النّابغة على تقديم اللّفظ والبناء معتبراً أنّ إضعاف اللّفظ يضعف المعنى . أمّا زهير بن أبي سلمى الّذي قيل فيه أنّه كان ينظم القصيدة في شهر،ويهذّبها في سنة، فكانت قصائده تسمّى الحوليات فهذا خير دليل على الاهتمام بصناعة اللّفظ وتمكين الصّياغة وتنقيح الأسلوب . فحتّى ألقاب شعراء الجاهليّة كانت مرتبطة بتأويل صياغة الشّاعر: فالمهلهل سمّي بذلك "لأنّه أوّل من هلهل الشّعر وأرقه" ( الأصفهاني في كتابه الأغاني في جزئه الخامس ).
ويعتبر عدد لا يستهان به من الباحثين بقضيّة الأدب والنّقّاد أنّ قضيّة اللّفظ والمعنى ظهرت مع الجاحظ الكناني الّذي اهتمّ بالبلاغة وعلم البيان والمظاهر اللّغويّة فنظريّته " تقدر أنّ الكلام هو المظهر العملي لوجود اللّغة المجرّد"(الأخضر جمعي، اللّفظ والمعنى في التّفكير النّقدي والبلاغي عند العرب، منشورات كتاب اتّحاد الكتّاب العرب، دمشق - 2001، ص39.)وبالرّغم من أنّه القائل بأنّ "المعاني مطروحة في الطّريق" وهذا ما جعل الكثير من الدّارسين يحكمون عليه أنّه من أنصار اللّفظ وأسبقيّته على المعنى ولكن في الواقع إنّه لم يعطِ للّفظ أسبقيّة على المعنى بل هو من أصحاب المقابلة والتّكامل بينهما فجعل اللّفظ والمعنى كالجسد والرّوح معتبراً أنّ اللّفظ قالب للمعنى وخير دليل ، و هو ما ذكره الجاحظ نفسه في البيان والتّبيين حين قال:"مَنْ أرادَ معنًى كريمًا فليلتمسْ له لفظًا كريمًا، فإن حقَّ المعنى الشّريف اللّفظُ الشّريف".
واستمرّ السّباق بين اللّفظ والمعنى فجاء ابن قتيبة ، وهو المناصر للمعنى فلا قيمة للّفظ ، إذ لا يحمل معنىً ومغزىً نبيلاً .
فجاء ابن رشيق القيرواني ليمسك العصا من وسطها فقال في كتابه " العمدة في محاسن الشّعر وآدابه " :
"اللّفظ جسم، وروحه المعنى، وارتباطه به كارتباطِ الرّوحِ بالجسمِ، يضعف بضعفه، ويقوى بقوّته، فإذا سلِم المعنى واختلَّ بعض اللّفظ كان نقصًا للشّعر وهجنة عليه، كما يعرضُ لبعض الأجسام من العرج والشّلل والعور، وما أشبه ذلك، من غير أن تذهب الرّوح، وكذلك إن ضعف المعنى واختلّ بعضُه، كان للّفظ من ذلك أوفر حظّ ، كالّذي يعرض للأجسام من المرض بمرض الأرواح، ولا تجد معنًى يختلُّ إلّا من جهة اللّفظ، وجريه فيه على غير الواجب، قياسًا على ما قدّمت من أدواء الجسوم والأرواح، فإن اختلّ المعنى كلُّه وفسد بقي اللّفظُ ميتاً لا فائدة فيه، وإن كان حسن الطّلاوة في السّمع، كما أنّ الميت لم ينقص مِن شخصه شيءٌ في رأي العين، إلّا أنّه لا يُنتفعُ به ولا يفيد فائدة، وكذلك إن اختلَّ اللّفظ جملة وتلاشى لم يصحّ له معنى؛ لأنّنا لا نجد روحًا في غير الجسم البتّة".
وأمّا حديثاً فإنّ من أهمّ الأقوال ما جاء على لسان الدّكتور سلوم في كتابه "النّقد الأدبي" : "إنّ امتزاج المعنى والألفاظ والخيال كلّها هو الّذي يسمّى بالصّورة الأدبيّة، ومن ترابطها وتلاؤمها والنّظر إليها مرّة واحدة عند نقد النّصّ يقوم التّقديرالأدبي السّليم"
وبذلك فلا بدّ من اعتبار أنّ النّصّ الأدبي غايته المعنى، وسيلته اللّفظ ، لا يصلح المعنى بمبنى هشيم والعكس صحيح . كما لا يمكن عزل النّصّ الأدبي عن دوره المجتمعي والقيمي وتأثيره بالمجتمعات ما لا يتناقض أبداً مع جماليّته . فالفنّ للفنّ ، والفنون ناقلة للمجتمع بسلبيّاته وإيجابيّاته مصوّبة لنظرياته بأسلوب جمالي يختلف النّاظر له باختلاف خلفيّاته الثّقافيّة والحضاريّة . فالنّصّ الأدبي -ختاماً- اتّفقنا على مبناه ومعناه وأسبقيّة أحدهما على الآخر، لن نختلف على أنّه صوت صارخ يدخل القلوب بجماليّته ويحتوي العقول بفكره.