ألا قل لمن بات لي حاسداً
ألا قل لمن بات لي حاسداً أتدري على من أسأت الأدب
.................................
أسأت على الله في حكمه لأنك لم ترض لي ما وهب
وهي حكمة قالها القدامى يناشدون بها من يتحرك قلبه بالغل إذا رأى نعمة على غيره ليترفق بنفسه ويرحمها من تدميرها بغل الحسد، وأن يعلم بأن الله هو المعطي ولا راد لعطائه، وإلا ما نجح أحد ولا اغتنى أحد، لأن كل ذي نعمة محسود، ومن منا يحب أن يكون غيره أفضل منه، ومن منا لا يريد أن تكون الدنيا كلها له وحده..
لكن هل كل متخبط محسود؟
الذين يعلقون كل مشاكلهم على أنها عين الحسود تفعل وتسوي بهم، فإنهم أيضا يُشقون أنفسهم بأيديهم، واختاروا الكرب رفيقا لا يفارقونه.. إذاً لا الحاسد يرتاح بحسده، ولا الموهوم بالحسد يهدأ بتوهمه.
لكن هل معنى ذلك أن الحسد غير موجود أو لا تأثير له؟
كلا إن الحسد حقيقة، لكنه سبب من الأسباب المؤذية المنتشرة بيننا والتي يصيب الله بها من يشاء ويصرفها عمن يشاء كالفيروسات والحوادث والأخطاء القاتلة في المستشفيات والمصانع والكوارث الطبيعية والحروب والاغتيالات.. وكلها أسباب لا تؤثر بذاتها وإنما للقدر كلمة في تأثيرها أو عدمه، والله يصرفها عمن يشاء ويصيب بها من يشاء بحكمة ولحكمة عالية سامية..
فقد تنطلق عين الحاسد فيردها التحصين، والمحافظة على النعمة بشكرها وعدم التباهي بها، وتوظيفها في ما يرضيه سبحانه، وصدق الله إذ يقول عن السحرة الذين هم في تعمد الأذى والقدرة على تنفيذه أشد وأخطر من الحاسدين: «وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله» (آية 102 سورة البقرة).
أما الذين ينكرون الحسد من أساسه (يريدون بذلك مواجهة المبالغين في نسبة كل مشاكلهم إلى الحسد) فإنهم أيضا لا ينبغي أن يسقطوه من حساباتهم لأن الله أخبر بوجوده وأمر بالتعوذ من شره فقد قال في سورة النساء (أم يحسدون الناس على ما أتاهم الله من فضله) أية 54 وقال لرسوله وللأمة: قل أعوذ برب الفلق.. ومن شر حاسد إذا حسد. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من أعين الجان وأعين الانس كما أخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري. (وهذا الصحابي الجليل سهل بن حنيف يقول مررنا بسيل فدخلت فاغتسلت فيه فرجعت محموما فنمى ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال مروا أبا ثابت يتعوذ). أبوداوود ج 4
ولذلك علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأينا نعمة عند أحد أن يكون حسدنا طيبا..حسدا محمودا في الخير.. فعن عَبْدَ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ قال قال النبي صلى الله عليه وسلم لَا حَسَدَ إلا في اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ الله مَالًا فَسُلِّطَ على هَلَكَتِهِ في الْحَقِّ وَرَجُلٌ آتَاهُ الله الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بها وَيُعَلِّمُهَا (البخاري)
والحسد المحمود هنا هو الغبطة وهي الفرح للنعمة عند الغير وتمنى دوامها لهم مع سؤال الله مثلها.، ومن فعل ذلك كانت عينه عكس عين الحاسد.. عينا نافعة لمن ينظر إليه بقدر صلاح الناظر وقربه من ربه !
فهي معادلة كونية ربانية أعطي الله طائفة من عباده الصالحين - الذين والوه بالطاعة فوالاهم بالعناية فأصبحوا أولياءه - خاصية النظرة النافعة: خاصية إيمانية عالية تؤثر بالود والحنان والرضا والسكينة إذا نظرها الصالح إلى محبوبه أو تلميذه سلب منه آفة من آفات القلب. وقد فهم ذلك أجدادنا بفطرتهم فعرفوا نظرة الحاسد وتجنبوها وعرفوا نظرة الولي فطلبوها.
دون أن يتطرقوا بفطرتهم إلى الشرك بالله لا في الحاسد ولا في الناظر. فنظرة الحاسد تصيبك بالكرب والضيق والتخبط، ونظرة الصالح تشعرك بالأمن والرضا والسكينة وتشعر أنك لست على الأرض بل مع الملائكة. والفعال هو الله سبحانه وهؤلاء فقط بإذن الله تأثيرهم.
فما أحلى أن يعيش الإنسان نعمة الرضا.. فإن وجد الإنسان في نفسه ضيقا لنعمة عند الغير عليه أن يخالف نفسه ويجعلها غبطةً لا حسداً، ويقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله، ويقاوم الشر في نفسه ليعينه الله سبحانه على الخلاص من هذا العيب.
أما صاحب النعمة التي يخشى عليها من الحسد فعليه أن يراعي أعين الناس وألا يتباهى بما أنعم الله عليه، فقد قال نبي الله يعقوب لبنيه (..يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة..) آية 67 يوسف وليس معنى ذلك أن ينكر النعمة أو يسترها لأنه لا ينبغي أن ينكر عطية ربه.