التعليم والإعلام.. عندما تغيب الشفافية
كلمة الشفافية تعبر دومًا عن مستوى راقي في التعامل بين الدوائر الحكومية بحيث تصبح كل القضايا بكل جوانبها متاحة للجميع فتخضع لرقابة المجتمع فلا تعطي فرصة للفساد على المستوى الشخصي أو الجماعي، وهذه الشفافية تجعل الموظف أيا كان موقعه حريصًا على تطبيق القواعد والشروط على الجميع وفي كل الملفات التي يتولاها، وتجعل المواطن ذاته مطمئن أنه سوف يحصل على كامل حقوقه وكامل فرصه التي يتيحها المجتمع لكل أبناءه.
هذه الشفافية هي أهم ما يميز المجتمعات المتحضرة والبلدان المتقدمة، فدوماً الأولوية لأصحاب الكفاءة بعيدًا عن انتماءاتهم أو مستواهم الاجتماعي أو عرقهم أو جنسهم أو معارفهم، فعندما يتم الإعلان عن وظيفة عامة أو قيادية في أي قطاع تكون كل الشروط معروفة ولا يتم اختيار إلا من تنطبق عليه تلك الشروط بكل دقة بلا مجاملة أو إجحاف وهو يحقق مبدأ: "الرجل المناسب في المكان المناسب"
تعالوا لننظر نفس النظرة إلى مجتمعنا فقد يجتهد الطالب ما ويتفوق ويكون الأول في كل سنوات دراسته ويظل على نفس درجة الاجتهاد بعدما يتخرج فيلتحق بالكورسات والبرامج التأهيلية والتدريبية المتعددة وربما يحصل على درجة علمية أعلى من أقرانه ، ويتقدم لوظيفة تم الإعلان عنها ولكن لأنه بلا واسطة فلا يتم النظر في ملفه أو التعرف على قدراته، ويتم تقديم من هو أقل منه، لا لشيء سوى وجود ذلك الحل السحري الذي يفك كل القيود ويلغي كل الحواجز إنها المحسوبية والواسطة التي أفسدت الكثيرين وأصبحت كالسرطان القاتل الذي لو تركناه فسوف يقضي على سلامة المجتمع، وبالتدريج سوف تختفي المساواة وسينهار مبدأ تكافؤ الفرص الذي تنص عليه الدساتير والقوانين.
ومن المجالات التي استشرت فيها ظاهرة المحسوبية والواسطة قطاع الإعلام والعمل الصحفي بكل أشكاله وقطاع الجامعات والوظائف العلمية، فالنسبة للمجال الأول فربما ترى هؤلاء الإعلاميين الذين صدعونا بالكلام عن النزاهة والشفافية هم أول من يهدمونهما، فعندما يسند إليهم مهمة اختيار الإعلاميين الجدد تجد بعضهم ربما لا يختارون المتميز الدارس الذي ثقف نفسه وتشبع بالعلم والمعرفة وأصبحت لديه القدرة ليكون إعلامياً متميزاً بل إنهم يحاربون أي شاب متميز، ربما خوفاً منهم أن ينافسهم في مكانتهم وربما لمأرب أخرى لا نعلمها، وهو ما يجعل الوسط الإعلامي مليء بأشباه الإعلاميين الذين لا يملكون أية مهارة أو ميزة بل مجرد تابعين يقدمون إعلاما هشاً بلا هدف أو رؤية. (والحق يقال: فالأمر لا ينطبق على الجميع).
والأمر ذاته تجده بكثرة في مجال العمل الأكاديمي في الجامعات، فالدرجات العلمية أصبحت توزع حسب المحسوبيات وللمعارف والأقارب وكأن الجامعات أصبحت ملكية خاصة للأساتذة وأبناءهم وذويهم؛ فغابت روح المنافسة بين الطلاب المجتهدين؛ لأنهم يعلمون النتيجة النهائية ستكون لمن له واسطة، إن وجود جامعات متطورة بها كل الإمكانيات ليس دليلا على وجود تعليم راق، بل الدليل هو وجود جيل من العلماء الحقيقيين الذين يمتلكون الموهبة ولديهم أهداف حقيقية وقدرات عقلية وعلمية بلا مجاملة. إن هدف التعليم هو خلق أجيال لديها المهارات الحقيقية لقيادة المجتمع وصناعة الحضارة، فلو فسد مجال التعليم فأقم على المجتمع مأتماً وعويلاً؛ لأن بداية التطور تكون على الدوام في فصول الدراسة.
إن فساد الإعلام والتعليم هو ما يصنع الفجوات الحضارية بين الأمم، فكلا المجالين تقع عليهما مهمة التنوير والتوعية فإن غابت الشفافية فيهما فالنتيجة ستكون كارثية. إنني هنا أصيح بصوت الناصح الخائف على أمته؛ فلذلك اقترح أن يكون هناك قسم مثل قسم العسكريين يطبق على كل المسئولين عن اختيار الوظائف العامة وخاصة في مجالي الإعلام والتعليم العام والجامعي؛ لنضمن حصول على كل المتقدمين لتلك الوظائف على فرص متساوية.