دماغك.. الكون الكبير
*د.سعود الدبيان :
*
كثيرًا ما نستخدم لفظ: “أرقامٍ فلكية” للدلالة على الأشياء المُفرطة في الحجم أو الكثرة أو التعقيد، وهذا بالطبع له ما يبرره! فإذا نظر المرء إلى السماء فغالبًا لن يُحصي إلا بضعة آلاف من النجوم المتناثرة، لكن يكفيه أن يعلم أن مجرتنا الأم تحوي أكثر من١٠٠ مليار نجم مثل شمسنا تدور حول أغلبها أعدادٌ غير معروفة من الكواكب والأقمار، كل هذه الأعداد الخرافية التي يصعب الإلمام بمدى ضخامتها تسير بنظامٍ وإبداع يُذهل العقل والعلم، غير أن الكون ـ رغم تعقيده وضخامته ـ يتضاءل أمام دقة الدماغ البشري وتعقيده الشديد، إذ يحتوي دماغ الإنسان على ما يقارب١٠٠ مليار خلية عصبية، وهو تقريبًا نفس عدد النجوم في مجرتنا، غير أن كل خلية من هذه تملك روابط عصبية مع الآلاف (بين ١٠٠٠ و٢٠٠،٠٠٠) من الخلايا العصبية الأخرى، وتتواصل فيما بينها لتعمل بتناسقٍ ودقةٍ مذهلة إلى أبعد حد. فيكفي أن يعرف المرء أن عدد الروابط العصبية في دماغ الشخص البالغ يفوق بمراحل مجموع النجوم، ليس في مجرةٍ أو اثنتين؛ بل في ٢٠٠،٠٠٠ مجرة مثل مجرة درب التبانة!! و إذا كانت النجوم تترابط فيما بينها بقوى التجاذب الثابتة؛ فإن الخلايا العصبية هي أبعد ما تكون عن الجمود و الثبات. المليارات والمليارات من الرسائل العصبية يحدث تناقلها بين الخلايا كل يوم لكي تغيِّر أعمالها بما يضمن لها التكيف المستمر لتتواءم مع التغير في حالة الدماغ والجسم بين العمل و النوم والشعور بالحب أو الغضب وغيرها. الهدف هو الاستقرار في أداء الوظيفة بكفاءة قصوى.
بعد هذا كله يكفي أن نعرف أن الإبداع في تركيب الدماغ يصل إلى مراحل أخرى صعبة الإدراك، وذلك عندما نعلم أن الإشارات الكهربائية الدقيقة بين المليارات من الخلايا لا تُنظم العمل فقط؛ بل تُخزن جميع ما تمر به من التجارب والمشاعر والمعلومات البصرية والسمعية والحسية، كميات هائلة من المعلومات تملأ أكثر من ١٠٠ مليون جهاز تخزين من حجم ١ تيرابايت والتي لو وضعت فوق بعضها البعض لتجاوز ارتفاعها محطة الفضاء الدولية بمراحل.. و هذا كله فقط للتخزين دون المعالجة واتخاذ القرار، فهذه قصة أخرى وموضوع آخر من الإعجاز والجمال.
من عجائب هذا العضو أيضًا، أن الدماغ على الرغم من أنه المركز الذي تصل إليه الإشارات الحسية من جميع أنحاء الجسم؛ إلا أنه يفتقد الإحساس، ويمكن فعلياً قطع أجزاء منه دون أن يشعر الشخص بأي ألم..!! وكذلك رغم تكون الدماغ من الماء بنسبة ٨٠٪ إلا أنه يعمل كلياً بالنبضات الكهربائية، ويولِّد طاقة تعادل طاقة مصباح صغير قدرته ١٠-١٥واط.
أخيرا.. سيكون من المحزن أن تملك هذا “الدماغ” المذهل دون أن تحسن استخدامه ورعايته، وتعطيه حقه من القراءة والاطلاع.. و قبل أن أختم أطلب منك في المرة القادمة حينما تريد المبالغة ألاّ تقول: أرقام فلكية ولكن قل: “أرقام دماغية” فهي أبلغ و أصوب بالتأكيد.
*المبتعث إلى جامعة هارفارد*قسم الوراثة وطب الجينوم