عفوا : عيدنا خارج الوطن
مابين محاولات الأب اليائسة لإقناع طفله ابن الثامنة بالاكتفاء بما تم شرائه من ملابس وألعاب للعيد،وبين حيرة أم أتعبها نزق ابنتها بنت التاسعة التي لا يعجبها ماتراه من خيارات هائلة معروضة لتختار منها ملابس للعيد.
مابين هاتين الصورتين تركت لطرفي التنقل وأنا في عملية بحث مستمرة في وجهي الطفل والطفلة عن أهم مستلزمات العيد،وأهم رفقائه ؛ غير أني لم أجد من اثر يدل عليه.
كنت أبحث عن فرحة العيد،أين ذهبت تلك الفرحة الصافية بالعيد التي تجتاح المشاعر والشعور عند العلم أن غدا هو العيد ولا سيما عند الأطفال ؟
تلك الفرحة الصافية بالعيد التي كانت حرة من أي اشتراط مسبق للفرح .
غرقت في التفكير وأنا اتابع بأسى منظر الأب والأم الذين يجاهدان طفليهما حتى يحققان لهما مبتغاهما ،ويمهدان لهم طريق الفرح بالعيد.
اجتاحني شعور عارم بالتعجب من تعقيدات الوضع العام للحياة الاجتماعية التي نعيشها،حتى أصبحنا نعيش الحياة فقط ، ولم يعد بمقدورنا أن نحياها.
أصبح للشعور بمشاعر الفرح متطلبات مكلفة في المظهر والمنظر والكم والمدى ،متطلبات تقصم ظهر الفرح ،لتتسيد الصورة هذه المظاهر المتكلفة ويغادر الفرح المشهد العام؛فتبقى الصورة رغم تكلفتها خالية الوفاض من روح الفرح بعفويته و بنضارته وحيويته.
لأسباب عديدة أضعنا طريق فرحة العيد الحقيقية في مشهد أيامنا الحالية ؛لكن يبقى أهم أسباب التيه عن استشعار طعم الفرح بحق ،يتمثل في طغيان الاهتمام بالمظهر العام بتفاصيله الدقيقة جدا،وعمليات التجديد فيه، حتى وصل التسابق المحموم على التميز بغرض التفاخر أن أصبح لهذه الحاجة سوقا رائجا يبتكر أفكار جديدة في الاحتفال وفي رسائل التواصل.
فإن نظرت بعين الفاحص تجد أن كل شيئا يخص طرق التعبير عن فرحة العيد مرورا بالتهاني المتداولة هي في حقيقتها أمورا مستعارة من أفكار الغير ومشاعر الغير، و لضآلة استشعارنا الفرح الحقيقي بالعيد غدونا عالة على مشاعر الآخرين ندعيها ونتراسلها، وهي في حقيقتها مصممة بهدف الربح لاغير.
أصبحنا في هذا الزمن نهتم ونشتغل بما نضع على هذا البدن،وبالمكان الذي سيظهر هذا البدن فيه ،وباستعراض ممتلكاتنا ،وما وصلنا إلينا من هدايا، استغرقنا الاشتغال بذلك حتى وصلنا إلى مرحلة من التباهي تصل للتوحد مع مانملك ، و بالتدريج شيئا فشيئا وصل بنا الحال أن أصبح مالدينا هو أثمن مابنا.
فضلا عن إتجاه أعداد لا يستهان بها لتفضيل قضاء العيد خارج حدود الوطن ، وهذه الخطوة تحديدا تبين بجلاء مدى الذاتية التي تكاد تكون مفرطة في مفهوم فرحة العيد؛بحيث أصبحت أمرا شخصيا مقطوع الصلة بمفهوم أن العيد صلة للأهل وللأقارب .
أصبح العيد أمرا شخصيا يقتصر الفرح به على الشخص ،يعيشه حسب مقتضاه الفردي،ف�
أصبح العيد أمرا شخصيا يقتصر الفرح به على الشخص ،يعيشه حسب مقتضاه الفردي،فيتقاسم فرحة العيد مع أحبابه الافتراضيين على الشبكة العنكوبتية،ومع أصدقائها الذين أختارهم جلساء له في برنامج السناب؛ يضحك معهم،ويحزن لحزنهم،ويشاركهم أفراحهم ، ويجعل فرحة العيد لهم، يسافر للالتقاء بهم،في البلدان التي أختاروها ليقضوا العيد بها.
هكذا وصل حال البعض في العيد وهكذا صار مفهومهم لمعنى فرحة العيد.
وهذا المفهوم الذاتي لفرحة العيد يؤكد وجود تواصل متصل لإهمال تلك الروح الهدية الجميلة من البارئ سبحانه وتعالى ، فأهملنا مشاعرها،واحتياجاتها ، لذلك أصبح استشعار مشاعر فطرية مثل فرحة العيد يتم من خلال وسائط وعوزال وحجب وأستار متوالية من المظاهر المادية ،فلا عجب أن يكون الإحساس ضعيفا ، و التفاعل بطيئا والتعبير باردا عند مقارنته بإحساس واستشعار العيد في الماضي غير البعيد.
فعند النظر إلى المشهد الاجتماعي قبل أربعين عاما ،لوجدت أن أبرز المميزات هو إحساس الناس بفرحة العيد بكل صدق؛حتى أن مظاهر البشر تفيض من القلوب عبر نظرات العيون وصفحة الوجه ،ومدات الأيادي في العطاء و المصافحة.
بسهولة تلتقط فرحة العيد الغامرة، وتستشعر الحرارة في طرق التعبير عنه،تشعر أن الأرواح هي التي يتملكها الفرح،وأن الجسد ينحصر دوره في التعبير عن فرحة العيد القادمة من القلب مباشرة.
تجد الناس يعبرون عن فرحتهم بالعيد بعفويتهم،وبأنفسهم، ينطلقون من صادق شعورهم بالفرح الذي يجدون صداه في أرواح الجيران جميعا، ومن يرى صباحات أعيادهم يرى كيف هو جمال اقتسام الفرح على موائد الحب.
من يرى احتفالاتهم الجماعية يعلم أي مفهوم جميل لفرحة العيد قد استقرت في الوجدان، فيستعدون له قبل انبلاج فجره ، بالبدأ بالمشاركة في تهيئة مكان لاجتماعهم في الحي بعد الانتهاء من صلاة العيد ثم باشتراكهم بإحضار الوجبات المعدة في منازلهم ثم تشاركهم بأهازيج العيد ،والكل فرح ومسرور، الميسور منهم والمحتاج،ومحتاجهم قد يفوقهم فرحا لما يستشعر من أنعام تدخل بيته من أبناء حيه في يوم العيد المبارك.
اجتماعهم يكون للأنس وتبادل التهاني القلبية الحقة، وينشدون في اجتماعهم أناشيد تعلي روح الاجتماع ،وتجعلها أحد أسباب المسرة والسعادة.
يأتي عيدهم بهيا نقيا سالما من التكلف بريء من التفاخر.