د. ا. ع. ش.
عبدالله ناصر العتيبي:*
من أين أتى «داعش»؟ وكيف نشأ وترعرع واشتد عوده؟ ومن يدعمه؟ وما هي الأولويات على رأس أجندته؟ وما هو مستقبله؟ وكيف تنظر إليه الكيانات والدول الشرق أوسطية؟ وهل هو بوجه واحد أم وجوه عدة؟ وكيف تمكن محاربته في المستقبل عسكرياً وفكرياً؟
الأسئلة أعلاه تدور هذه الأيام في كل وسيلة تواصل. الوسائل الإعلامية تتحدث. المنتديات الفكرية تتساءل. الدوائر البحثية في المراكز الأمنية والحكومية والجامعات تناقش. تعليقات الأصدقاء على آرائك. المقاهي تنضح بالأسئلة. الاجتماعات العائلية في البيوت تقص وتلزق. والرجل الوحيد في سيارته المستغرق في التفكير يذهب بعيداً ويجيء قريباً، إنما بلا جواب شافٍ!
نسمع مرة أن «داعش» صنيعة إيرانية، ونسمع مرة أنه ابن نظام الأسد، ونسمع ثالثة أنه مدعوم من السعودية. وتقول مصادر أخرى إن «داعش» قاعدي صرف يسعى إلى القضاء على كل الكيانات في المنطقة ليقيم دولته. ونسمع كذلك أن أميركا والغرب وراء كل هذه الفوضى في المنطقة لأسبابها الخاصة. فمن أين هو يا ترى؟ وفي أي سلة يمكن أن نضعه؟
يقول البعض إن «داعش» تشكل في المختبرات الإيرانية. وأستطيع أن أتفق مع هذا الاحتمال، وأقول إن ذلك من أجل اختراق المكون السني الذي لا يمكن اختراقه إلا بالاستحواذ على أشد أطيافه تطرفاً وأكثرها تشدداً. وأضيف أن إيران بتبني «داعش» تستطيع التأثير غير المباشر على الأطياف السنية كافة «واحتلال عقلها»، من خلال استخدام الفصيل الذي يظهر «العداء الأشد للروافض» كطعم مألوف الملامح.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تعمل إيران على إقناع العالم المتحضر والمتمدن أن الإسلام الشيعي هو الإسلام الحقيقي الميّال للسلام، والطرف الذي يمكن الاعتماد عليه في بناء علاقات دولية على أسس التعايش السلمي، بعكس هؤلاء الهمج الذين لا يعرفون التعامل مع الآخر إلا من خلال تقطيع الرؤوس وسحل الأبدان.
ولا أستطيع الاتفاق مع هذا الاحتمال عندما أعرف أن «الداعشيين» (أو التكوينات السنية المتطرفة عبر التاريخ) تحكمها القيادة السنية وتنظر لها المرجعية السنية وتقوم بتنفيذ مهماتها الأداة السنية، وبالتالي فإن مسألة الاختراق لا تستقيم مع الواقع «الداعشي» المنكفئ على التراث السني المتشدد الذي لا يسمح بنفاذ أية آيديولوجيا مخالفة إلى نسيجه الداخلي. كذلك فإن إيران لا تستطيع في تقديري المضي في دعم «فعل» «داعش» وتبنيه في الوقت الراهن إذا ما آمنا بهذه المسألة، خوفاً من انقلاب «رد الفعل» الذي تشتهر به دائماً الجماعات المتطرفة التي تستخدم الأعداء أولاً والأصدقاء ثانياً والمحايدين ثالثاً وأخيراً، كوقود لرحلة اللانهاية!
ويقول البعض إن «داعش» ابن لنظام الأسد. ويمكنني الخضوع لهذه الفكرة إذا ما عرفت أن وجود «داعش» الآن في سورية من مصلحة نظام البعث الحاكم. «داعش» الآن يحد من تحركات الجيش الحر على الأرض، ويتخذه عدواً وهو الممثل الشرعي للثورة السورية! تحاربه جنباً إلى جنب قوات الأسد، وتعمل على القضاء عليه في المناطق السورية المحررة، وفي هذا تخليص للنظام الأسدي من كماشة الثورة التي كادت أن تقتلعه في عامها الأول، وتحويل الأرض السورية إلى مجموعة من الكانتونات المحكومة من أمراء الحروب (بشار الأسد أحدهم)، الأمر الذي سيجعل من الأزمة السورية عارضاً دولياً مستمراً وملعباً لتوازنات إقليمية تسمح للنظام الحاكم ببسط يده أكثر وأكثر.
أيضاً يمكن أن أفهم هذا الاحتمال وأتفهمه إذا ما عرفت أن وجود هذا الفصيل الديني المتشدد في سورية الآن، والذي يسعى بدوره إلى إسقاط نظام الأسد والحلول مكانه، يرسل رسالة شديدة الوضوح إلى العالم الحر مفادها أن بقاء بشار الأسد على رأس السلطة الخيار الأسلم بالنسبة للعالم. بشار الذي يقتل شعبه ويتحرك دائماً باتجاه الداخل، أفضل من الرئيس «الداعشي» المحتمل لسورية الذي سيقتل مواطني العالم ويتحرك دائماً باتجاه الخارج.. هكذا يفهم الغرب وهكذا يفكر؟
في المقابل، يمكنني رفض هذا الاحتمال تماماً عندما أعرف أن تشكيل «داعش» يتكون من عشرات الجنسيات المختلفة، بقيادات عراقية في غالبها، وهذا ينفي الصورة المحلية عن التنظيم التي قد تكون مدخلاً لصبغه بالعمالة لنظام البعث.
قلت إن «داعش» يعمل تحت مظلة قادة عراقيين، لماذا إذاً لا يكون صناعة مالكية؟ من الممكن أن يكون كذلك، وأستطيع أن أذهب بعيداً في هذا الأمر وأخضع لهذا الاحتمال إذا ما دخلت الصندوق لأفكر: المالكي يعرف منذ أعوام أن سياساته الطائفية ستصنع رد فعل سني مقابل قد يكون مصحوباً بحمل السلاح ضده! هو في هذه الحال إذاً يحتاج إلى إشراك تنظيم متطرف (مطلوب دولياً) مع الثوار السنة الأبرياء الذين يسعون إلى رفع المظلومية والتهميش والإقصاء عنهم لإضفاء صفة الإرهاب عليهم. المالكي بصناعة هذا التنظيم يجعل العالم الغربي والقوى الإقليمية أمام خيارين: المالكي السياسي الذي نتفق ونختلف معه، أو المجرم المتطرف المطلوب دولياً؟
ومن الممكن ألا يكون لدوائر بغداد دور في تحضير فيروسات «داعش»، إذا ما عرفنا أن الحكومة العراقية تعرف أن إشراك هذا التنظيم المتشدد ذي الفك المفترس في عملية القضاء على الثوار السنة قد «يخرج من اليد»، ويسهم في اقتلاع المالكي من جذوره ورميه بعيداً في طهران حيث قادته ورؤساؤه!
حسناً. هل من الممكن أن يكون «داعش» إذاً سعودياً؟ التنظيم يحمل فكراً وهابياً خالصاً، والسعودية تُتهم دائماً بتبني هذا الفكر أينما كان ومتى وجد. الخريطة الهلالية أيضاً التي رسمها «الداعشيون» لدولتهم الوليدة لا تقترب من الحدود السعودية، وتظهر دولتهم وكأنها جارة شمالية للسعودية!
مسألة النفي التام لـ«داعش الإيراني» أو «داعش السوري» أو «داعش العراقي» لا يمكن أن أتبناها كوني لست من رعايا هذه الدول الثلاث، لكني كسعودي أعرف تماماً أن «داعش» عدو للمجتمع السعودي والنظام السياسي السعودي على حد سواء. أدبياته لا تتفق مع الواقع المعاش في السعودية لا على مستوى الحكومة ولا على مستوى الشعب، وبالتالي فإن إلصاقه بظهر السعودية لمجرد كونه تنظيماً سنياً على خلاف مع المالكي والأسد، يُعد في تقديري كرتاً محروقاً لا يمكن للعالم أن يقبله!
السعودية عانت من ويلات التنظيمات الشبيهة بهذا التنظيم محلياً، وتعرف بدءاً أن خطر هذه التنظيمات لا ينحصر على الدول التي تعمل فيها بل يتجاوز ذلك إلى كل دول هذا الإقليم من العالم بشكل مباشر، والعالم ككل بشكل غير مباشر.
هل من الممكن أن يكون «داعش» غربياً؟ وأميركياً تحديداً؟ نقبل هذه الفكرة إذا ما رسمنا السيناريو التالي: «داعش» سيتمكن من إسقاط نظام المالكي، وسيزحف على الكويت ويحتلها ويكمل طريقه باتجاه السعودية ودول الخليج العربي، وسيتمكن من السيطرة على منابع النفط في الخليج، وبالتالي فلا بد من تدخل القوى الغربية وعلى رأسها أميركا لإنقاذ «عصب العالم». تدخل أميركا في هذه الحال يعني احتلالاً رحيماً ومطلوباً، قد يمتد لعشرات الأعوام!
هذا سيناريو متخيل، لكن يمكن نسفه بالكامل، إذا ما عرفنا أن أميركا اليوم ليست أميركا القرن الماضي. وإذا ما عرفنا كذلك أن أميركا لو كانت ترغب في التدخل المستقبلي في المنطقة لما خرجت من العراق قبل أعوام قليلة تحت الضغط الشعبي المحلي الأميركي.
أنا لست مؤمناً أن «داعش» صنيعة للدول أعلاه. قد يكون التنظيم حظي منها بتسهيلات غير مباشرة ومتغيرة بحسب الظروف، لكنه ظل عدواً لكل هذه الدول منذ إنشائه وحتى الآن.
أنا مؤمن بأنه تنظيم قاعدي خالص، يتصرف بناء على آيديولوجيا متطرفة، لكنه يخدم من حيث لا يعلم ولا يريد هذه الدولة أو تلك، ويعود فيتسبب في مشكلات لهذه الدولة نفسها أو تلك، فماذا ترى أنت عزيزي القارئ، وبماذا تؤمن حيال هذا «الداعش»؟
عن صحيفة الحياة
* كاتب وصحافي سعودي
23-06-2014 09:02 مساءً
0
0
16.0K