استراحة المحارب.. وللبيت رب يحميه!
الدكتور عيسى الغيث :
* *من المصلحتين العامة والخاصة لكل صاحب هدف يعمل لأجله سواء كان عاماً أو خاصاً أن يتوقف بين وقت وآخر عن الركض لتحقيق عدة أهداف منها الراحة الحسية والمعنوية، ومراجعة المسيرة للنظر في الإيجابيات لتعزيزها والسلبيات لتلافيها، ومن الفوائد كذلك إعطاء الفرصة للآخرين ليشاركوا في المسيرة وظهور مدى تظافر الجهود لتحقيق الهدف، وفيه بيان لمدى كمية ونوعية العاملين لنفس الهدف، فالماشي فضلاً عن الراكض يحتاج للتوقف للراحة وللتلفت خلفه ليرى من يشاركه المسيرة ومن تخلف عنها ومن قطع طريقها.
وطريق الوسطية لا ينقصه الحاملون لفكرها بقدر ما ينقصه المبادرون لحمل رايتها، وكثيراً من الأوقات لا تجد الغالبية مساندين لك وفي أحسن الأحوال تجدهم متفرجين عليك، سواء الجهات الرسمية أو الأهلية فضلاً عن الأفراد من علماء ومفكرين ومثقفين، لأن فاتورة الاعتدال غالية ومكلفة وأتباع منهج السلامة أكثر بكثير من أتباع سلامة المنهج، ومن غير المعقول أن يحرق الواحد منا نفسه وهو يرى كبار العلماء والمؤسسة الدينية فضلاً عن كبار المسؤولين وهم لا يجسرون على أن يعبروا عن آرائهم الوسطية والمعتدلة وتراهم ينساقون ويتساوقون أحياناً مع الرأي الغوغائي المتطرف ولو بالسكوت عنه، وكذلك التقليدي والحزبي وذلك من أجل سلامتهم على حساب سلامة الحاضر والمستقبل فضلاً عن دينهم وأمانتهم ورسالتهم التي فرضها الله عليهم.
وفي هذه الحالة آن للمجاهدين السابقين في سبيل الوسطية، والمحتسبين الأوائل في طريق الاعتدال أن يتوقفوا ولو قليلاً ليستريحوا وربما يريحوا، وقد يكون لسان حالهم (إن للبيت ربا يحميه)، وحينها يلتفتون لصالح شؤونهم الخاصة التي طالما تورعوا عن الانهماك فيها لصالح الشؤون العامة دون أي مقابل دنيوي سوى الابتلاء والمشقة في سبيل الله تعالى ومع ذلك بلا جدوى من تقدير أو حسن ظن فضلاً عن مساندة وتأييد.
إن للعلماء الحقيقيين والمفكرين الصادقين والعارفين الواعين واجباً كبيراً يؤدونه تجاه الأمة سواء بجزئها الوطني أو العربي أو الإسلامي ويتحملون في طريق ذلك الكثير من اللأواء والمشقة، ومن أبغض التهم التي يستقبلونها أنهم يعملون لصالح دنياهم بل دنيا غيرهم في حين أن الواقع أنهم ضيعوا دنياهم لصالح آخرتهم فما نالوا من الأقربين فضلاً عن الأبعدين سوى الجحود وربما النيل في نواياهم ومقاصدهم.
وبفضل الله وبعد هذه السنوات من ظهور صوت الدعوة الوسطية والفكر المعتدل والفقه المتسامح بدأت أفواج جيل جديد تتكاثر مع هذه الموجة الهادية المهدية لأنها وفقاً للفطرة الربانية والسنة الكونية بلا إفراط ولا تفريط، ولا تقليد ولا تفلت، ولا تحزب ولا فوضى، وبدلاً من أن تكون مسيرة الوسطية فيها العشرات أو المئات إذ يسلكها اليوم الآلاف وعشرات الآلاف الحاملين لفكرها والعاملين بسلوكها التعبدي والأخلاقي، ولكن مع كل هذا النجاح الكبير لهذه الدعوة نحو صحوة جديدة بلا إرهاب ولا تقليد ولا تحزب إلا أننا نحتاج لترك الساحة للجيل الجديد الذي نراه في مواقع التواصل الاجتماعي يقود الهاشتاقات نحو حقوقهم الدينية والدنيوية بلا استبداد ديني ولا كهنوت فقهي.
وعليه فسأتوقف خلال هذه الفترة عن الكتابة والكلام في الشؤون المثيرة للجدل وسأترك التغريد خارج السرب للجيل الجديد، ولعلي في هذه المرحلة أن أضمد الجراح التي لحقتني من الأقربين فضلاً عن الأباعد، فالظهر مليء بالمغادر والصدر مليء بالتعب والمشقة، وآن للمحارب أن يستريح بعد خمس سنوات كتبت خلالها ألف مقال وعشرين ألف تغريدة ومئات المشاركات التلفزيونية، وسأعود بإذن الله لهذا السرب ولكن بعد أن أتيقن من أنه مليء بالطيور المغردة الوسطية التي لم تتكل على غيرها، وكذلك غيرها لم يحتكر التغريد لها، وإنما هي كالمجرة يطير فيها ويغرد كل من يحمل هم العيش بحرية ربانية ليكافح (ثالوث الغرباء) الذي كتبت عنه كثيراً طول السنوات الماضية، وهو زاوية الوسطي بين المتطرفين والتجديدي بين التقليديين والمستقل بين الحزبيين، وغالب الآخرين إما ضالين وأصحاب شبهات، وإما جهلة دراويش مغفلين، أو تجار دين وما أكثرهم.
وفي الختام ستكون مقالاتي وتغريداتي ومشاركاتي العلمية والإعلامية خلال الفترة المقبلة بعيدة عن هذا السرب وكذلك لن أعود لأغرد في ذلك السرب الذي نقدته، ولكني سأسلك سرباً ثالثاً ربما أكون فيه الوحيد بأفكار جديدة لكنها ليست بمثل تلك الأفكار التي كلفتني الكثير وآن للآخرين أن يستلموا الراية ليدفعوا شيئاً من فاتورة وعثاء الطريق إن أرادوا العيش بحرية وسعادة، وحينئذ أقول كما قال الأول أنا رب الغنم وللبيت رب يحميه، وأسأل الله التوفيق والإعانة للمجاهدين المحتسبين الخلف الحاملين للراية والصادعين بالحق نحو الوسطية والتجديد والاستقلال.