اكسر الدائرة
عبدالله المديفر:
يحدثني أحد الأصدقاء أنه التقى بشاب في ضواحي العاصمة البريطانية لندن داخل محل صغير لعائلة هذا الإنجليزي، ومما دار في حوارهما قول هذا الشاب لصديقنا: (هل تعلم أن جدي وأبي وأنا كلنا ولدنا في هذا الشارع، وتوقعي أن أُدْفن في تلك المقبرة التي يرقد فيها جدي الآن).
إن هذا الشاب الإنجليزي في جملته القصيرة يصف مشهد حياته بأنه تكرار لحياة والده وجده، فهو يشترك معهما في مكان الولادة وينتظر كما يبدو نفس النهاية، فهو أسير لدائرة صغيرة تبدأ من شارعه وتمتد إلى دكانه وتنتهي في المقبرة المجاورة، وهذا نتاج طبيعي للاستسلام لحركة الدائرة القريبة التي تجعلك تكرر الدوران حول نفس النقطة المركزية.
لقد خسرنا كثيراً من المبدعين وتبددت كثير من الطاقات لأنها كررت حركتها الدائرية حول بؤرتها العميقة، فتكرار الدوران حول هذه النقطة سيجعل المنتجات الشخصية مكررة ومحدودة التأثير، وكثير منهم يحب هذا العمق ولا يريدون التفريط فيه، ولم يدرك هؤلاء أن العمق ليس بالضرورة أن يكون هو الامتداد، ونقطة العمق يجب أن تكون نقطة انطلاق لا نقطة وصول، فالمدينة التي ترعرعت فيها ليس بالضرورة أن تكون هي مجال العمل الأمثل، والأوائل كانوا يرددون حكمة جميلة تقول: (ديرتك اللي ترزق فيها).
بعضنا من شدة إدمانه على تكرار الحركة الدائرية حول نقطته المركزية يبحث عن شريكة حياته في خيارات محدودة من قريباته، وعن دراسة تؤهله للعمل القريب من منزله، ليعيش حياة مليئة بالتشبع والتكرار وانخفاض الإنتاج النوعي نتيجة استسلام عقله المنتج لطبيعة سلوكه الحياتية.
الحركة العمودية للإنسان هي أفضل من الحركة الدائرية لأنه يدور لمرة أو مرتين فقط على دائرته الأولى، ثم ينطلق في اتجاه عمودي ليشكل دائرة جديدة أكثر اتساعاً، وتضيف الكثير لحياته الجديدة ليمكث فيها فترة تعلم ونضج وإنتاج، ثم يغادرها قبل مرحلة التشبع بحركة خروجه العامودي ليشكل دائرة جديدة وهكذا دواليك، فهو يجيد فن كسر احتكار الدوائر القديمة وصنع الدوائر الجديدة.
الانصهار في الربع الأول من حياتك للدائرة الأولى هي أمر ضروري وحتمي، والطفل يبني أساسياته من عمقه المركزي حينها، وكذلك الحال في الربع الأخير من الحياة فالمسن يبحث عن الاستقرار والاسترخاء في كنف دائرته الأخيرة، وحديثي هنا منصب نحو منتصف عمرك الأوسط الذي يصنع حياتك الحقيقية، ولن ترسمها بصورة أجمل إلا إذا أتقنت كسر الدوائر.
إن التفكير بعقلية "كسر الدوائر" يجعل قرارك بيدك، وحياتك ملكا لك، بخلاف المستسلم لقيد الدائرة الذي يجعل قراره بيد من صنع الدائرة.
كاتب اليوم