هل من حل لبؤر كورونا؟
د. نوره العمرو :
* *
*انتقل إلى رحمة الله شهيد الواجب الممرض بندر الكثيري مطلع الأسبوع بعد إصابته بفيروس كورونا أثناء قيامه بتمريض حالة كورونا بمستشفى الملك عبدالعزيز بجدة، ليعلق الجرس بروحه الطاهرة وهو الممرض الشاب الذي ترك خلفه أرملة شابة ووالدين مكلومين وزملاء مهنة لم يصحو بعضهم من فاجعة حمل زميلهم على أكتافهم لمثواه الأخير.
علق بندر يرحمه الله الجرس لبؤر المستشفيات بعد أن حاول قبله ١٥ ممارسا صحيا، يرحمهم الله، والذين لن تهدأ أرواحهم إلا بحل يضمن سلامة مرضاهم قبل زملائهم.
باتت جدة تنام وتصحو على سيل من الأخبار عن حالات ووفيات من عدوى بؤر مستشفيات مختلفة، كورونا وغيرها، وبدأت الإشاعات تنتقل كانتشار النار في الهشيم ولكنها أقوى هذه المرة لأن مدعومة بصوت مختلف، بصوت الممارسين الصحيين الذين أقسموا على قاعدة صحية أساسية وهي أن لا يلحقوا ضررا بأحد، وتم اختبار قسمهم ببؤر المستشفيات بجدة.
من الصعب استنطاق الممارسين الصحيين فيما يدور بين أروقة المستشفيات إلا حين استشعارهم بخطر يحدق بمرضاهم ومجتمعهم فإنهم ينتفضون مخاطرين بكل تبعات إطلاقهم صافرة التحذيرات، وهذا ما يحصل حاليا في جدة، وهو ما يعد علامة إيجابية على تفاعل أهم عناصر النظام الصحي وهم الممارسين الصحيين مع أي خطر محتمل حتى مع تفكك القطاعات الصحية المختلفة وعدم قدرة إداراتها على الاستجابة بشكل آني.
وقبل استعراض الحلول الممكنة لبؤر كورونا، فلا بد من وقفة لتصحيح ما يتم تداوله من أخبار وإشاعات وخاصة أن المواطنين والمجتمع هم الخط الأول لإحتواء أي تفشي من عدمه وكلي ثقة بأن المواطنين والمقيمين على قدر مسؤولية مساندة طواقم الممارسين الصحيين في مهمة تصحيح مسار إدارة البؤر الحالية: المجتمعية والمرافق الصحية.
قامت وزارة الصحة بنشر الإرشادات التوعوية على موقعها لمكافحة عدوى فيروس كورونا "المجتمعية" وهي فعالة حتى للفيروسات الأخرى، إضافة لأخذ لقاح الانفلونزا الموسمية الثلاثي والذي يغطي إنفلونزا الخنازير بينما لا يوجد لقاح لفيروس كورونا حيث أنه من الصعب جدا إنتاجه فأغلب الدراسات التي حاولت انتاجه وجدت أن اللقاح تسبب بفشل كلوي في مرحلة الدراسات الحيوانية، ولذلك فإن التزام تعليمات الوقاية جدا مهمة في ظل عدم وجود لقاح له.
أما بالنسبة لعدوى فيروس كورونا في المستشفيات والمرافق الصحية فهي تخضع لمعايير أخرى غير ما نشرته وزارة الصحة في موقعها للوقاية من العدوى المجتمعية، وهي تنتج عن خلل في إجراءات مكافحة العدوى في تلك المنشآت ولا يحتمل المجال الآن للتحذير من وقوعها وهو ما قد نبه له العديد مرارا وتكرارا ولكن سنتجاوزه لمحاولة إيجاد حل لاحتواءها، فهي غدت واقعا لا بد من التعامل معه.
قامت وزارة الصحة بنشر بيان مطول عن جهودها في مكافحة العدوى على مدى السنتين الماضية ولكن هذه الجهود فشلت أمام نظام صحي مجزأ بقطاعات صحية مختلفة من دون مظلة تنفيذية موحدة ولو لأغراض الصحة العامة كالتعامل مع الفاشيات والأوبئة. وقد يجادل أحدهم بوجود اللجان العلمية الوطنية للأمراض المعدية ومكافحة العدوى ولكن تلك اللجان لم تفلح سوى بالإحتفاظ ببيانات بؤر المستشفيات والقيام بنشرها كدراسات بحثية متفرقة، كل وقطاعه الصحي، كما حصل بالدراسة الأخيرة التي نشرتها الخدمات الصحية بوزارة الحرس الوطني عن بؤرة العناية المركزة القلبية من دون إبلاغ وزارة الصحة ولا تحذير الجمهور منها، مع أنها عرضت العديد من الممارسين الصحيين والمرضى لخطر الإصابة بعدوى مستشفيات.
وعليه فإنه لا بد من إيجاد حل مختلف يضمن سلامة المواطنين والمقيمين مجتمعيا وفي المرافق الصحية بإنشاء هيئة عليا لمكافحة العدوى والأوبئة ترتبط بالمقام السامي ولو مؤقتا لحين عبور عنق الزجاجة الحالي من بؤر المستشفيات وخاصة في منطقة جدة لأسباب عديدة وأهمها حماية الطواقم الصحية المختلفة لضمان استمرارية تقديمهم الرعاية الصحية للمواطنين وزوار الحرمين الشريفين من معتمرين وحجاج في بيئة آمنة.
تهدف الهيئة العليا لمكافحة العدوى والأوبئة للمحافظة على الأمن الوطني الصحي بضمان سلامة الصحة العامة للأفراد والمجتمع، وتقوم بالعمل لمجابهة البؤر والتفشيات ضمن أطر الأنظمة الصحية عوضا عن التعامل الحالي القاصر مع البؤر كل على حدة والذي تسبب مؤخرا ببؤر المستشفيات وخاصة في منطقة جدة، فهذه الهيئة ستتعامل مع البؤر كناتج طبيعي لثغور القطاعات الصحية وخلل ارتباطها بالنظام الصحي كاملا، ابتداء من فريق إعلامي صحي متخصص متفاعل بشكل يومي مع المواطنين والممارسين الصحيين مرورا بمراجعة وتصحيح خلل الخدمات الوقائية والعلاجية وإنتهاء بإعادة هيكلة خطط التطوير والتدريب على ضوء الدروس المستفادة.
دور الهيئة العليا الشمولي لا يمكن له أن يحصل إلا بامتلاك مجلسه صلاحيات تنفيذية مستقاة من المقام السامي بحيث تفوق الصلاحيات المعتادة لوزارة الصحة والقطاعات الصحية المختلفة والقطاعات الغير صحية ذات العلاقة بالصحة والتي قد تخضع قراراتها لمعايير فردية ومؤسسية مختلفة عن معايير الصحة العامة.
لا بد أن يتكون مجلس الهيئة العليا من ثلاث أذرع: ممثلين للقطاعات المحلية الصحية وغير الصحية ذات العلاقة، وممثلين من المنظمات العالمية كمنظمة الصحة العالمية ومراكز التحكم بالأمراض الأمريكية والأوروبية، وممثلين من المواطنين والممارسين الصحيين حتى يتسنى لرئيس الهيئة العليا "المستقل" المرتبط مباشرة بالمقام السامي الحصول على رؤية بانورامية وبناء قرارات مستنيرة على ضوءها.
لا يمكن لوزارة الصحة الاستمرار في مجابهة عدوى فيروس كورونا وخاصة بعد ظهور بؤر مستشفيات الأخيرة في القطاعات الصحية المختلفة، ومع ذلك فإنه ما زال هناك نافذة فرصة أخيرة لتدارك الوضع بإنشاء الهيئة العليا لمكافحة العدوى والأوبئة للقيام بالمسؤولية وحفظ الأمانة قبل أن يتساقط أكثر من بندر.
"الجد والاجتهاد والمسؤولية لأن هذه أمانة، أمانة، أمانة من عنقي لأعناقكم كلكم" عبدالله بن عبدالعزيز"