الحسناء التي لا تُجيد الكلام!
حين قال لي أخي: "أحيانًا أفكر بالعربية وأتكلم بالإنجليزية". لم أبالي بكلامه, وقلت مبتدئ لم يتقن اللغة بعد, ولكن في لحظة صفاء صافحة فكري معلومة مرت بسلام حين قرأتها, ولم انتبه لها! إلا حين تذكرت كلام أخي!
إحسان عبدالقدوس كانت يتكلم في أحد كتبه عن أهل المغرب العربي فقد قال عن هذا الشعب الرائع: "أحينًا يفكرون بالفرنسية ويتكلمون بالعربية, فتعجز أن تفهم ما يريد أن يقول أحدهم"!
وهذا يقودنا إلى سؤال: هل سبب ضعف الترجمة؟ أن المترجم لا يستطيع أن ينقل لك كيف يفكر المؤلف, بما يسمى في هذا الحقل بـ "قلق الترجمة" تقرأ النص ثم تشعر بعدم الفهم, وتهمس في نفسك أن هذا المؤلف غبي! هو ليس غبيًا, هو طريقة تفكيره تختلف عن طريقة تفكيرك اللغوي, الترجمة الحرفية بهذه الطريقة خيانة للنص, لأن النص الأدبي يعتمد على استعارات ومجازات خاصة باللغة نفسها, إذا نقلت بلغة أخرى لا تفهم وتصبح مثل الكلام التافه.
"إذغار آلان بو" كاتب أمريكي ـ مخترع خيال التحري ـ له حظوة عند الفرنسيين أكبر من الحظوة التي تمتع بها في شعبه؛ لأن من ترجم له هو شارل بودلير ـ شاعر فرنسي ـ واشتهرت كتب إذغار بسبب روعة ترجمة بودلير, فبودلير أضاف للنص ما لم يكن فيه, أضاف له بلاغة اللغة الفرنسية, مثل المنهج الذي كان يسلك قديمًا في أوائل الترجمات العربية للكتب الأجنبية, كترجمة الزيات والمنفلوطي فيها استعارات ومجازات وسجع, ولكن هذه الترجمة لا أعتبرها أمينة!
إذا عبور الفكرة من لغة إلى لغة لا يمر بسلام, فربما تكون في لغة عبارة عن روح بيضاء مرفرفة, وتصبح في لغة أخرى مثل التمثال.
هناك بعض المترجمين الذي يُقرب لك النص إلى أبعد غاية في ذلك مثل علماني, وأحيانًا سامي الدروبي, وإن كان يبقى لكل لغة خصائص معينة في التعبير, وأحيانًا يكون نفس طريقة السرد لا تناسبنا كعرب أصلاً, طريقة الكتابة مختلفة, فروايات الأربعينات في أمريكا, كان لها له منهج خاص, يصعب على الامريكان أنفسهم في هذا عصر الألفية الثانية فهمها, فما بال الأمم الأخرى التي انتقلت إليهم هذه الروايات مترجمة, حتى لو كانت ترجمتها جميلة.
أكبر مشكلة تواجه المترجم, هي ترجمة المصطلحات من لغة إلى لغة, فقد يحصل ما يسمى "بالصدمة المعرفية" فالنص الأصلي لديه منظومة غامضة من الأسرار, عندما يقرأها صاحب اللغة نفسها تتداعى إليه مجموعة من الأفكار, لها خلفية ثقافية عند شعبه, ومعان متصلة بأمور متشعبة ومتصلة, ولكن عندما تنقل إلى لغة أخرى, تحتاج إلى شرح مطول يخرجنا عن غرض النص الأساسي!
في "معنى الدلالة" لكل كلمة ثلاث معاني, معنى في ذهن المتكلم, ومعنى في ذهن القارئ, ومعنى في القاموس, مما يجعل الترجمة الأدبية عملية صعبة ومعقدة, فـ "المعجم الأدبي" الذي ينشئه الكاتب أثناء استخدامه للغة بمفردات غير معروف ومتداخل, فكلمة "كفر" أو "كافر" مثلاً أصبحت ملبوسة بثوب الدين والعبادة, مع أن معناها الأصلي تعني معنى مضادًا, لكلمة "شكر" أو "شاكر" بمعنى جحد. مما يسبب إشكالية كبيرة للفهم عند المتلقي, ومرد ذلك هو الطابع الذي امتزجت به الكلمة التي اعتاد على سماعها, أيًا كان ذلك الطابع المأخوذ عن هذه الكلمة.
وهنا تدور عدة أسئلة!
ما هي وظيفة المترجم؟ هل هو ناقل محايد للنص من لغة إلى لغة أخرى؟ أم أنه شارح للنص بلغة ثانية؟ هل أنا أقرأ كلام النص الأصلي؟ أم أني أقرأ نص يدور حول معانيه؟ فكثير من النصوص عند قراءة الترجمة, ثم بعد ذلك قراءة النص بلغته الأصلية؟ نجد أنفسنا ندور في فلك احالات فرعية, لم تدر في ذهن الكاتب الأصلي.
أعتقد أن أفضل من اجاب على تلك الاسئلة بوضوح هو طه عبدالرحمن في كتابه فقه الفلسفة ـ وهو كتاب من جزئيين ـ فيه تكلم فيه عن إشكالية ترجمة النص الفلسفي (وهذا ربما يعم كل النصوص الأخرى) فيقول: "كل نص يكتبه كاتب بلغة أخرى فيه أربعة شروط تكون حاضرة, الشرط الأول: "الخصوصية" : بمعنى أن هذا النص يكون خاص بمجال تداولي معين, بظروف تاريخية وواقعية معينة, والشرط الثاني: "اللفظية" وهو أن النص يخضع لألفاظ معينة في حقبة تاريخية معينة, فالنصوص الألمانية القديمة لغتها تختلف عن الجديدة! ثالثًا الفكرانية ـ الايدلوجية ـ يقصد بها أن الكاتب له منطق أو انتماء فكري معين, انتماء قد يكون حاضر بقوة, أو قد حاضر بصيغة ما ورائية, من خلف النص, الشرط الرابع: "الاستقلالية": وهي مجموعة من الأفكار التي تدور في حقلها الخاص.
ثم يقول في نهاية حديثه عن الترجمة, أن هناك أربعة أنواع من الترجمات, تختص بخصوصية الكاتب وللفظيته وفكرانيته واستقلاليته, الثلاث أنواع الأولى, تقع في نطاق الترجمة ((التحصيلية)) فهي تقارب اللفظ فقط, وهذه بها آفات لا تعد ولا تحصى, فاللغات تختلف في تراكيبها وفي معانيها وفي بلاغتها وفي أنماطها, فالأنماط الثقافية في كل لغة مؤثرة, ثانيًا: هناك نوع من الترجمة يطلق عليه الترجمة ((التوصيلية)) التي تهتم بالمعنى, ككاتب يحاول قدر الامكان أن يقارب المعنى, فهذا يقع في تناقض جزئي بين الترجمة, وفكر الكاتب: لأن السياق الدلالي مرتبط بشكل كبير, إذا اهتم المترجم بالمعنى أكبر وأغفل اللفظ, قد يقع في التهويل وقد يقع في تحميل المعنى أكبر من احتماله, ثالثًا: هناك الترجمة التأصيلية: وهي أن يكون المترجم فيها حر, يحاول أن يبين خصوصية المؤلف وبنفس الوقت يحاول أن يقارب لغته فيترجم من خلال رؤيته الكلية له".اهـ
إذا من الخطأ جدًا اعتقاد كثير من الناس أن قدرت المترجم على فهم النص تعني قدرته على ترجمته, حيث أن الترجمة عملية أبعد بكثير من فهم نص بلغته الأم, فالمترجم يستغرق وقتًا طويلاً حتى يصل إلى المعنى المطابق لهذه العبارة أو اللفظة تحديدًا, قبل أن ينقلها بمفهومه الخاص, عبر تجريدها من معناها الأساسي, ووضعها في معناها السياقي الضمني.
أنى أرى أن المترجم, لأبد أن يكون كاتبًا بارعًا في لغته, متمكنًا من اللغة الأخرى وتاريخها, واحالاتها الفرعية, عارفًا بأسرار بلاغتها, وخلفيتها الثقافية, أمينًا في نقله, وبذلك يأتينا النص على مستوى المأمول.
إحسان عبدالقدوس كانت يتكلم في أحد كتبه عن أهل المغرب العربي فقد قال عن هذا الشعب الرائع: "أحينًا يفكرون بالفرنسية ويتكلمون بالعربية, فتعجز أن تفهم ما يريد أن يقول أحدهم"!
وهذا يقودنا إلى سؤال: هل سبب ضعف الترجمة؟ أن المترجم لا يستطيع أن ينقل لك كيف يفكر المؤلف, بما يسمى في هذا الحقل بـ "قلق الترجمة" تقرأ النص ثم تشعر بعدم الفهم, وتهمس في نفسك أن هذا المؤلف غبي! هو ليس غبيًا, هو طريقة تفكيره تختلف عن طريقة تفكيرك اللغوي, الترجمة الحرفية بهذه الطريقة خيانة للنص, لأن النص الأدبي يعتمد على استعارات ومجازات خاصة باللغة نفسها, إذا نقلت بلغة أخرى لا تفهم وتصبح مثل الكلام التافه.
"إذغار آلان بو" كاتب أمريكي ـ مخترع خيال التحري ـ له حظوة عند الفرنسيين أكبر من الحظوة التي تمتع بها في شعبه؛ لأن من ترجم له هو شارل بودلير ـ شاعر فرنسي ـ واشتهرت كتب إذغار بسبب روعة ترجمة بودلير, فبودلير أضاف للنص ما لم يكن فيه, أضاف له بلاغة اللغة الفرنسية, مثل المنهج الذي كان يسلك قديمًا في أوائل الترجمات العربية للكتب الأجنبية, كترجمة الزيات والمنفلوطي فيها استعارات ومجازات وسجع, ولكن هذه الترجمة لا أعتبرها أمينة!
إذا عبور الفكرة من لغة إلى لغة لا يمر بسلام, فربما تكون في لغة عبارة عن روح بيضاء مرفرفة, وتصبح في لغة أخرى مثل التمثال.
هناك بعض المترجمين الذي يُقرب لك النص إلى أبعد غاية في ذلك مثل علماني, وأحيانًا سامي الدروبي, وإن كان يبقى لكل لغة خصائص معينة في التعبير, وأحيانًا يكون نفس طريقة السرد لا تناسبنا كعرب أصلاً, طريقة الكتابة مختلفة, فروايات الأربعينات في أمريكا, كان لها له منهج خاص, يصعب على الامريكان أنفسهم في هذا عصر الألفية الثانية فهمها, فما بال الأمم الأخرى التي انتقلت إليهم هذه الروايات مترجمة, حتى لو كانت ترجمتها جميلة.
أكبر مشكلة تواجه المترجم, هي ترجمة المصطلحات من لغة إلى لغة, فقد يحصل ما يسمى "بالصدمة المعرفية" فالنص الأصلي لديه منظومة غامضة من الأسرار, عندما يقرأها صاحب اللغة نفسها تتداعى إليه مجموعة من الأفكار, لها خلفية ثقافية عند شعبه, ومعان متصلة بأمور متشعبة ومتصلة, ولكن عندما تنقل إلى لغة أخرى, تحتاج إلى شرح مطول يخرجنا عن غرض النص الأساسي!
في "معنى الدلالة" لكل كلمة ثلاث معاني, معنى في ذهن المتكلم, ومعنى في ذهن القارئ, ومعنى في القاموس, مما يجعل الترجمة الأدبية عملية صعبة ومعقدة, فـ "المعجم الأدبي" الذي ينشئه الكاتب أثناء استخدامه للغة بمفردات غير معروف ومتداخل, فكلمة "كفر" أو "كافر" مثلاً أصبحت ملبوسة بثوب الدين والعبادة, مع أن معناها الأصلي تعني معنى مضادًا, لكلمة "شكر" أو "شاكر" بمعنى جحد. مما يسبب إشكالية كبيرة للفهم عند المتلقي, ومرد ذلك هو الطابع الذي امتزجت به الكلمة التي اعتاد على سماعها, أيًا كان ذلك الطابع المأخوذ عن هذه الكلمة.
وهنا تدور عدة أسئلة!
ما هي وظيفة المترجم؟ هل هو ناقل محايد للنص من لغة إلى لغة أخرى؟ أم أنه شارح للنص بلغة ثانية؟ هل أنا أقرأ كلام النص الأصلي؟ أم أني أقرأ نص يدور حول معانيه؟ فكثير من النصوص عند قراءة الترجمة, ثم بعد ذلك قراءة النص بلغته الأصلية؟ نجد أنفسنا ندور في فلك احالات فرعية, لم تدر في ذهن الكاتب الأصلي.
أعتقد أن أفضل من اجاب على تلك الاسئلة بوضوح هو طه عبدالرحمن في كتابه فقه الفلسفة ـ وهو كتاب من جزئيين ـ فيه تكلم فيه عن إشكالية ترجمة النص الفلسفي (وهذا ربما يعم كل النصوص الأخرى) فيقول: "كل نص يكتبه كاتب بلغة أخرى فيه أربعة شروط تكون حاضرة, الشرط الأول: "الخصوصية" : بمعنى أن هذا النص يكون خاص بمجال تداولي معين, بظروف تاريخية وواقعية معينة, والشرط الثاني: "اللفظية" وهو أن النص يخضع لألفاظ معينة في حقبة تاريخية معينة, فالنصوص الألمانية القديمة لغتها تختلف عن الجديدة! ثالثًا الفكرانية ـ الايدلوجية ـ يقصد بها أن الكاتب له منطق أو انتماء فكري معين, انتماء قد يكون حاضر بقوة, أو قد حاضر بصيغة ما ورائية, من خلف النص, الشرط الرابع: "الاستقلالية": وهي مجموعة من الأفكار التي تدور في حقلها الخاص.
ثم يقول في نهاية حديثه عن الترجمة, أن هناك أربعة أنواع من الترجمات, تختص بخصوصية الكاتب وللفظيته وفكرانيته واستقلاليته, الثلاث أنواع الأولى, تقع في نطاق الترجمة ((التحصيلية)) فهي تقارب اللفظ فقط, وهذه بها آفات لا تعد ولا تحصى, فاللغات تختلف في تراكيبها وفي معانيها وفي بلاغتها وفي أنماطها, فالأنماط الثقافية في كل لغة مؤثرة, ثانيًا: هناك نوع من الترجمة يطلق عليه الترجمة ((التوصيلية)) التي تهتم بالمعنى, ككاتب يحاول قدر الامكان أن يقارب المعنى, فهذا يقع في تناقض جزئي بين الترجمة, وفكر الكاتب: لأن السياق الدلالي مرتبط بشكل كبير, إذا اهتم المترجم بالمعنى أكبر وأغفل اللفظ, قد يقع في التهويل وقد يقع في تحميل المعنى أكبر من احتماله, ثالثًا: هناك الترجمة التأصيلية: وهي أن يكون المترجم فيها حر, يحاول أن يبين خصوصية المؤلف وبنفس الوقت يحاول أن يقارب لغته فيترجم من خلال رؤيته الكلية له".اهـ
إذا من الخطأ جدًا اعتقاد كثير من الناس أن قدرت المترجم على فهم النص تعني قدرته على ترجمته, حيث أن الترجمة عملية أبعد بكثير من فهم نص بلغته الأم, فالمترجم يستغرق وقتًا طويلاً حتى يصل إلى المعنى المطابق لهذه العبارة أو اللفظة تحديدًا, قبل أن ينقلها بمفهومه الخاص, عبر تجريدها من معناها الأساسي, ووضعها في معناها السياقي الضمني.
أنى أرى أن المترجم, لأبد أن يكون كاتبًا بارعًا في لغته, متمكنًا من اللغة الأخرى وتاريخها, واحالاتها الفرعية, عارفًا بأسرار بلاغتها, وخلفيتها الثقافية, أمينًا في نقله, وبذلك يأتينا النص على مستوى المأمول.