المؤسس

رأسلنا

المبوبة

الخصوصية

عـن غـــــرب

فريق التحرير

  • ×
السبت 4 مايو 2024

مرة واحدة

إذا كان قلبك خال من السوء سترى الأشياء على حقيقتها!
يكفيك أن تفعل شيئاً ما لمرة واحدة، ويروق لك، ليصبح ذلك الشيء عادة مستحكمة، كما يكفيك أن تجلس مع إنسان ما جلسة واحدة، ليتحول بعدها إلى صديق حميم، ويكفيك أن تنظر إلى إنسانة ما نظرة واحدة، لتصبح بعدها رفيقة عمر وأنيسة دهر. ويكفيك أن تقرأ مقالة واحدة لكاتب ما، ليصبح بعدها مرجعاً لفكرك، ومصدراً لرأيك.
مرة واحدة تكفي لتقلب حياتك أساساً على رأس، وبطناً على ظهر، وكأس واحدة تكفي لتجعلك مدمناً، زلة قدم واحدة في ممشى ممحل، تحول مظهرك من مظهر رجل أعمال إلى مظهر مشرد، هزة أرضية واحدة تحيل مدينة إلى ركام، طلقة واحدة تنهي حياة حافلة وتضع حداً لأحلام عريضة، جرة قلم تطرد موظفاً من وظيفته، كلمة يقولها القاضي تخلّد إنساناً في السجن، وتفرج عن إنسان يائس من العودة إلى الدنيا.
الحياة مغامرة قسرية، ننسى هذا حين ندعى إلى تجربة شيء من المغامرة! نجفل من ممارسة شيء ما باختيارنا، مع أننا نمارسه كل يوم رغم أنوفنا الشامخة!
وهكذا كانت رحلةٌ واحدةٌ باباً عظيماً لي إلى حياة مختلفة، إلى بُعد خامس لم يكتشفه أينشتاين.
فقط تأمل في حياتك، ستجد أن خطوة صغيرة واحدة تكفي لتقلب كل المعادلات، وتؤسس لاحتمالات مختلفة، وتنقلك إلى طور مختلف، من العلاقات والمشاعر والأحاسيس.
ذلك هو الذي يجعل الحياة تشبه أن تكون على كف عفريت، ويجعل لكل واحد من التفاصيل الصغيرة قيمة لا نهائية، وطاقة متجددة تملك أن تزلزل الأرض من تحت قدميك، وتجدد الدماء في عروقك، وتفكك رأسك وتعيد تركيبه على نحو مختلف.
أعمق الصداقات قد يكون ثمرة لقاء عابر، كثير من الناس أمّلت من وراء معرفتهم أملاً عريضاً لكنه تبخّر. وكثيرون لم أعبأ بهم ابتداءاً، وكانت لهم في حياتي أدوار غير عادية انتهاءاً.
التجربة الأولى تحييك أحياناً، لكنها تقتلك أحياناً أخرى، ولذا كان من وظائف الدماغ: الاستفادة من التجارب القديمة، والتجربة كتاب يكتبه المغامرون، ثم يكتبه الحمقى من جديد.
إنسان رائع قابلته لأول مرة وهو في وضع مزاجي سيئ، بلد سافرت إليه وهو في وضع مناخي مزعج، ولم تسافر إليه في الموسم الملائم، قمر بحثت عنه في مطلع الشهر فلم تجد منه إلا خيطا يسمى هلالاً. كاتب مبدع قرأت له أسوأ كتبه فأبغضته، مطعم ممتاز تناولت أقل أطباقه شعبية. كل أولئك من كدر الحياة وخداعها الذي ذقتَ منه كثيراً في الماضين ولا حيلة لك تجاهه في المستقبل!
لا غرو.. أن أدمنتُ الرياض بعد تلك الرحلة، ولم تمر ثلاثة أشهر حتى كنتُ في أحضانها من جديد، وصرت أجدد العهد بها بين الفينة والأخرى، وصارت لي فيها مزارات ثابتة: أعظمها مقداراً: جافا تايم. المقهى الجاذب على طريق الملك عبدالعزيز، والذي اعتدت فيه لقاء الصديق الخارق: محمد عبدالباري الذي أدمنته هو الآخر!
لكن، تظل المرة الأولى ذات مذاق مختلف، ويظل أثرها في الوجدان أعمق، وتظل ذكرياتها أحلى. لذا تجدني أسأل الواحد من أصدقائي دائماً عن اللقاء الأول الذي جمعني به، عن الانطباع الأول الذي وقر في ذهنه، عن اللحظات الأولى التي وقفت فيها أمام منفذ قلبه قبل أن أحظى بتأشيرة الدخول.
المرة الأولى تشبه الولادة، فهي اتساع بعد ضيق، ومساحة جديدة يتمدد فيها العقل، ثم لا يعود أبداً إلى حالته السابقة إلا حين يعود الرجل إلى رحم أمه، ويعود اللبن إلى الضرع، وهي تأتي بعد مخاض قد يكون عسيراً وقد لا يكون، لكنه مخاض على أية حال.
ومحرومون جداَ: أولئك الذين لم يخرجوا من رحم المألوف إلى عالم الحياة الساحر المليء بما يدهش ويسر.
ومساكين جداً: أولئك الذين لم يذوقوا طعم المغامرة، ولم يرتفع منسوب الأدرينالين في عروقهم إلا خوفاً من مبارحة مألوفاتهم.
ومعذبون جداً: أولئك الذين يحملون فوق رؤوسهم أطناناً من الموروثات المتحللة، والتقاليد التي لا تليق بأجسادهم، والخرافات التي حاكها أجداد أميون، ليلبسها أحفاد يحملون الآيباد والآيفون.
وحمقى جداً: أولئك الذين يحسنون الظن بأنفسهم، ويجعلون منها مقياساً للفضيلة والحقيقة.
كل أولئك بحاجة إلى ولادة جديدة، وتجربة جديدة، تهدم تلك الأسوار التي تحيط بأدمغتهم، وتعصف بالخرق البالية التي تستر عنهم سوآت المألوف، وتغطي عوار الموروث!
بواسطة :
 0  0  9.7K